انعقد فى لبنان فى الفترة من 21-25 مايو الماضى مؤتمر، ضم مجلس الكنائس العالمى ومجلس كنائس الشرق الأوسط، تحت عنوان (الوجود المسيحي فى الشرق.. حضور وشهادة).. ومجلس كنائس الشرق الأوسط هيئة دينية تضم العائلات الكنسية الأربع في الشرق الأوسط الأرثوذكسية والأرثوذكسية المشرقية والإنجيلية والكاثوليكية، تأسس عام 1974.. وفى عام 1990 انضمت العائلة الكاثوليكية للمجلس بكنائسها الموجودة في المنطقة.. مقر المجلس بيروت، وله مكاتب في القاهرة وعمان والقدس وطهران.. إيران على فكرة بها ما يقرب من 600 كنيسة وحوالى 300000 مسيحى. فى كلمة الافتتاح قال الأب (ميشيل الجلخ) أمين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط: (في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ منطقتنا نشعر أكثر من أي وقت مضى بحاجتنا إلى التلاقي والتساند والحوار، ونوقن أنه لا بد لنا من تفعيل عمل مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي اضطلع به منذ إنشائه بمسكونية الخدمة والمسكونية الروحية ومسكونية الحوار بين الكنائس المحلية والحوار مع المسلمين وسواها من المهام التي تندرج في صلب حضور المسيحيين في المشرق وشهادتهم.. وتابع: في هذا الشرق حيث الحضور المسيحي ليس عرضيا أو مستجدا، بل هو تاريخي تأتي معاناتنا في صلب انتمائنا إلى مجتمعاتنا المتألمة الباحثة عن سبيلها إلى العيش الكريم الحر، أي إصرار على أن لا شيء يفصلنا عن محبة أوطاننا نلتقي لكي يتسنى للكنائس المختلفة مشاركة همومها ومصاعبها ولنفكر مواطنينا مسيحيين وغير مسيحيين في كيفية انخراطنا في دعم بعضنا البعض انخراطا أكثر فاعلية وتأثيرا). وفى الوثيقة الختامية للمؤتمر، أكد الحضور على أن (الضرورات الوجودية) باتت تتطلب منا أن نتدارك ما طرأ على واقع مجتمعاتنا من تحولات سياسية ومجتمعية وثقافية (تصيب عمق حضورنا وشهادتنا) فى بلادنا والمنطقة بأسرها. لم أفهم جيدا المعنى المقصود من جملة (الضرورات الوجودية)، وهى على ما تبدو من ظاهر الألفاظ تشير إلى الوجود، وما يقابله من الاندثار _ لا قدر الله _ وهذا ما نفهمه من كلمة الضرورات. ثم إلحاق الجملة بالتحولات السياسية والثقافية والمجتمعية التى تمت فى المنطقة.. وهى إشارة بالطبع إلى الثورات التى صعدت بالإسلاميين إلى مدارات السلطة والحكم، وهى التحولات التى وصفتها الوثيقة لاحقا (بالشمس البهية).. فكيف أصابت الحضور والشهادة المسيحية فى العمق؟.. علىّ أن أجمل وأروع سطور الوثيقة تلك التى تذكر (إن أوطاننا ليست دار استثمار وعبور بل موضع الجد والشهادة).. وهذه حقيقة من حقائق التمثل الحضارى فى المنطقة.. وتدعو الوثيقة الإسلاميين إلى (استنباط طرق جديدة فى مقاربة حقائق وجودنا فى تلك المنطقة تتجاوز ما أَلفَته الأذهان من مقولات الفقه السياسى والدينى العتيقة)، مقولات الفقه السياسى والدينى العتيقة التى تعرض بها الوثيقة بصيغة يبدو فيها التبرم والرفض.. هى التى حفظت الوجود المسيحى بكل مكوناته فى الشرق على مدى ألفي عام ويزيد.. والدور العظيم للمسيحيين العرب فى بناء الحضارة الإسلامية بكل عطاءاتها فى ظل تلك (المقولات العتيقة)، يشير إلى الاستقرار والرسوخ الدينى والاجتماعى الذى تظللوا به، فكانوا وكانت عطاءاتهم المنيرة.. لم يكن ذلك عرضا طارئا، بل كان فقها وفهما راسخا. خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به فى *** طلعة البدر ما يغنيك عن زحل غير أن التطور التاريخى الذى لحق بالمنطقة وأنتج لنا (الدولة الوطنية) لم يتأخر عنه الفقه الدينى والسياسى، بل كان أسبق له وأصبحت (المواطنة التامة) هى مظهر الحقيقة _ كما يقولون _ للإنسان العربي فى وطنه.. مسلما كان أم غير مسلم.. والمرء لا يسعه إلا الترحيب بما ذكرته الوثيقة فى ذلك (والمسيحيون المشرقيون عازمون على اغتنام هذا الزمن التاريخى الواعد ليسهموا فى تنوير الفقه السياسى، حتى يغدو قابلاً للإتيان بمواطنة يشعر كل إنسان بأنه أصبح خلقا كسائر الخلق له منعة ذاتية لا تزدرى وكرامة أصيلة لا تمتهن وقيمة أصيلة لا تستباح. وحدها مثل هذه المواطنة تضمن لجميع أبناء الشرق العيش الكريم الحر المزدهر، أما الاصطفاف فى معسكرات التحالف المريب بين الأقليات واستنجاد الغرب ومواطأته على شركاء الأرض والمصير فأمور لا تليق). والرسالة واضحة لبعض إخواننا الأقباط فى تلميحاتهم التى لا تنقطع عن مثل ذلك.. وإذ أشير إلى ذلك، فليس أقل من أن أتوجه إلى التجمعات القبطية فى المهجر بحل نفسها وشطب جملة (أقباط المهجر)، من الحوارات التى تشمل (المصريين بالخارج).. وعليهم كما ذكرت الوثيقة أن يغتنموا (الزمن التاريخى) الذى تعيشه المنطقة فى خطوتهم هذه. وأن يكفوا عن (الاصطفاف فى معسكرات التحالف المريب). ولعل رحيل غبطة البابا شنودة الثالث يساعد على سرعة إنجاز هذا المطلب الوطنى.. فيما كان يرى غبطته أن هذا التجمع فى الخارج له تأثيراته القوية على الداخل فهما منه _ وحبا أيضا _ لأساليب سياسية قديمة فى طرق التفاهمات والمداولات والاتصالات والمفاوضات. إشارة الوثيقة إلى تعرض مركزية القضية الفلسطينية للتهميش وتهويد القدس ورفض (يهودية الدولة الإسرائيلية)، تمثل بحق إشارة تاريخية بالغة الصدق والوعى تجاه (الجرح المفتوح) فى جسد الأمة، وهو ما يعبر عن ولاء تام غير منقوص لفكرة (الأمة) التى يشكلون فيها وجودهم التاريخى والموضوعى العميق. لم يفت الحضور أن يقولوا كلمتهم للأمة والتاريخ فى (أنظمة الهلاك) التى تسلطت على المنطقة منذ منتصف القرن الماضى، وأضاعت كل شىء بشرا وحجرا وشجرا. وانتزعت من الناس حتى ملكية مصيرهم الخاص بهم، (فالأنظمة السياسية التى تعاقبت على إدارة المجتمعات العربية منذ منتصف القرن العشرين ابتليت بالفساد والزبانية والعقم الفكري فى استثمار موارد العالم العربى، مما أفقر الناس وحصر الثروات فى أيادى الأسر الحاكمة وحفنة من المستثمرين النافذين المواطئين لأصحاب السلطان، فإذا بتلك المجتمعات تفتقر إلى أبسط البنى التى ترعى الإنماء الاجتماعي والتربوي والصحي). واختتمت الوثيقة سطورها التاريخية بالدعوة إلى (صياغة ميثاق جديد للمعايشة الإنسانية ترعى التنوع فى داخل مجتمعاتنا وتصون الاختلاف وتهيئ لأبناء الشرق أسباب العيش الكريم). الوثيقة فى أغلبها جيدة وعميقة وموضوعية وواضحة.. وأتصور أنه ينبغى على الإسلاميين فى مصر والمنطقة التجاوب معها بقوة.. بغض النظر عن التقارير التى ترصدها الأجهزة فيما يتعلق بإصرار (البعض) فى مصر على مداومة إرهاق الشارع بالتظاهرات والاعتصامات وتعطيل العمل السياسى باتجاه استكمال المؤسسات.. دعونا نصافح التاريخ فى أوقاته الأكثر بهاء وإشراقًا.. فقد جاء الصباح وجاءت معه ضرورة تدبير الأمر.