كتبت مرة في التسعينيات بشئ من الفخر والزهو أن أندونيسيا أكبر دولة إسلامية دخلت في عداد الدول الكبرى الصناعية. كتبت ذلك بينما لم يكن عالمنا العربي – خصوصا الخليج – يعرف عن هذا البلد سوى أمرين، مصدر خادمات المنازل، وجاذب للباحثين عن الحرام في مراتعها بجاكرتا التي سمح بها الديكتاتور سوهارتو. ذهب إلى هناك أستاذنا الدكتور عبدالقادر طاش عليه رحمة الله، وجاء ليحكي لنا سر النهضة الاندونيسية التي جعلتها تعوم على دقائق "السيلكون". رجل يقبع في الظل رغم أنه وزير للتنمية والبحوث العلمية، وهو الدكتور بحرالدين يوسف حبيبي، الذي تعلم هندسة الطيران في ألمانيا، ثم جاء لينقل بلده إلى عداد الدول الصناعية بانشائه عشرة مصانع استراتيجية للطيران والسفن ودقائق التكنولوجيا. كتب الدكتور طاش في ذلك الحين عدة مقالات عنه، وبدأ الرجل يدخل دائرة الأضواء بعد أن كان يعمل بنجاح كامل في الظل مكملا دائرة التفوق في جنوب شرق آسيا مع الجارة ماليزيا بقيادة الدكتور مهاتير محمد. أول ما بدأه حبيبي في الضوء هو وساطته للصلح بين نظام ديكتاتوري علماني فاسد حكم البلاد 32 عاما، وبين الاسلام، فأقنع سوهارتو بوضع المثقفين الاسلاميين في دائرة مستشاريه وأنشأ منظمة لهم داخل الحزب الحاكم العلماني. النظم لا تتغير بشعوب تكتفي بالتمنى خلف النوافذ خوفا من أن يبللها المطر لو خرجت بأمانيها إلى الهواء الطلق، أو تنتظر منقذا يهبط بالباراشوت ليخلصها من الطواغيت والفاسدين، فسرعان ما هبت مظاهرات الطلبة التي ذكرتني بجيل السبعينيات من طلبة الجامعات المصرية الذين دوخوا السادات، وكانوا آخر العهد بأجيال مصر الحية الناشطة التي لا تخشى البلل ولا تصرخ من تحت البطانية! "العصا" لا تفرق الاندونيسيين مثلنا، كما لا تجمعهم "الطبلة". تكاد جيناتنا الوراثية تنفرد بذلك بين كل شعوب الدنيا. نبرر ذلك بأننا تعرضنا للاخصاء من جانب نظام أفسد الحياة السياسية والاجتماعية المصرية منذ تولاها وحتى الآن. سوهارتو – حامل الاعدادية والصول السابق – فعل فيهم أكثر مما فعل فينا بعشرات المرات، لكنهم لم يتحولوا إلى أغاوات. أحاطوا بقصر الرئاسة والبرلمان ولم يتركوا الشوارع، لا نفعت معهم عصي ولا كرابيج ولا دبابات ولا أمن مركزي. لم يهدأوا إلا وسوهارتو يسلم "النمر" ويعلن الاستسلام مع عائلته ويتم ترحيلهم من قصر الرئاسة، لكن الخطأ الأكبر أن حبيبي الذي كان وقتها نائبا للرئيس وعينه البرلمان رئيسا للجمهورية حتى اجراء انتخابات رئاسية جديدة، حيث كان لم يمض على اعادة انتخاب سوهارتو سوى شهور قليلة، لم يحاسب المفسدين، ولم يقل لهم "من أين لك هذا". انتقل سوهارتو مع عائلته إلى أحد أحياء جاكارتا وهو في أمان تام، فقد لعبت أمريكا حينها دورا كبيرا في نقل السلطة لنائبه "حبيبي" بعد أن استشعرت أن مظاهرات الطلبة التي تشارك فيها منظمات إسلامية فعالة منها جماعة نهضة العلماء التي يبلغ عدد أعضائها خمسين مليون نسمة، قد تأتي برئيس إسلامي في دولة يدين 90% منهم بالاسلام. في نيويورك التقيت مستشار حبيبي الذي وعدني بلقائه، قائلا لي إن الرجل علماني حتى النخاع تاركا في نفسي غصة وألما. وهذا ما اكتشفته بالفعل فيما بعد. كانت رؤيته أن اندونيسيا بلد متعدد الطوائف، فيه أقليات مسيحية وصينية، ولكي يعيش أرخبيلها الممتد الواسع سالما هانئا لابد من ابعاد "الدين". ولما قلت له إن الاقليات الصغيرة جدا بالنسبة للمسلمين لا تبعد دينها، رد بثقة: ولكن الرئيس ليس منهم! عدت لأكتب ما توقعته.. الرجل الذي نجح صناعيا سيفشل سياسيا وسيقود اندونيسيا إلى التمزق، وأول ما سيدفعه للغرب نزع "تيمور الشرقية" منها ومنحها الاستقلال حيث كانت الأقلية المسيحية تطالب بها دولة مستقلة وتثير فيها الاضطرابات، ولم يستجب لهم الديكتاتور السابق. وحدث ما توقعته بالضبط خلال 581 يوما بالتمام والكمال قضاها حبيبي في قصر الرئاسة. ورغبة في ارضاء الغرب قدم المزيد من التنازلات. أطلق الأيدي لمحاصرة المنظمات الاسلامية والمدارس الدينية القرآنية رغم أنها لم تكن تدعو للتطرف أو التشدد، وكانت حجته أنها تناقض المبادئ العلمانية، وأقام علاقات تجارية وصناعية مع اسرائيل واستورد منها طائرات سكاي هوك مع أن أصابعها لعبت بقوة مع الحركات الانفصالية وكانت تقدم السلاح لمتمردي تيمور الشرقية وتدربهم عسكريا! لأنه شعب حيوي مسلم لا يسكن عالما افتراضيا أسقط عبقري الصناعة والتحديث الذي شعر بمدى الضعف والاستكانة في مواجهة مرشح إسلامي هو زعيم جماعة نهضة العلماء الاسلامية الشيخ عبدالرحمن عبدالواحد أو "وحيد" الذي تعلم في الأزهر ونال منها درجته الجامعية في الفقه، فتنازل أمامه قبل يوم واحد من الاقتراع. ولأن أمي كانت قد دعت لي بالخير، فقد رفضت في بداية حياتي الصحفية أن أشرب"الشربات" الذي وزعه أنصار الأستاذ محسن محمد رئيس مجلس إدارة الجمهورية بعد صدور قرار رئاسي بالتجديد له. لم أتوقع بالطبع أن الصحفي موزع الشربات سيرفع إليه أسماء من لم يشربه حتى لو بسبب "ماغص" في بطنه، فطردني الرجل بعد ثلاث سنوات قضيتها "تحت التمرين" في انتظار التعيين. لم أكن أعرف أن ذلك هو السبب إلا عندما أخبرني به أستاذي المرحوم عبدالوارث الدسوقي مساعد رئيس تحرير الأخبار السابق، وقالها لي بلهجته الريفية فهو من احدى قرى المنوفية "ما شربتش الشربات ليه.. يا اخي اشربه سك عشان مستقبلك"! لو قابلت الأستاذ محسن الآن لشكرته على هذا الطرد، فقد أتاح لي أن أخرج وأن تنالني رعاية الاستاذين الكبيرين هشام وعلي حافظ مؤسسي جريدة الشرق الأوسط وشقيقاتها، فقد أستطعت أن أقابل من خلال عملي في جريدة "المسلمون" الكثيرين من صانعي الأحداث في بلادهم وبينهم الشيخ عبدالواحد. قلت أيامها: أخيرا سيحكم اندونيسيا رجل يطبق الاسلام لينهض هذا البلد ويتحول لدولة كبرى فعلا، فقد قابلته أثناء عمله الدعوي، ثم أثناء ترشحه للرئاسة ضد حبيبي وحماس الشعب الاندونيسي التواق لدينه لقيادة لا تبعده عن المساجد ولا تفصل بينها وبين السياسة. لكنه فاجأني بمنهجه غير المتوقع "أنا شيخ علماني ديمقراطي.. لن تعيش اندونيسيا بدون العلمانية". أطلق برنامجه وفاز بسهولة، لكنه لم يمكث سوى 21 شهرا، إذ استشري الفساد في كل مكان، وفرت عائلة سوهارتو بما سرقته (73 مليار دولار لها و15 مليارا لرئيسها). ورغم رئاسته السابقة لجماعة أصولية وجذوره العائلية الدينية عن أبيه وجده لأمه، فقد حبس الدين في المسجد وأعطى الحرية للأقليات وسمح لجيوش التبشير بالدخول بدعوى التعددية الثقافية والديمقراطية. أسقطه الشعب الذي ظل يعمل بدأب من أجل أن تعبر اندونيسيا عن هويتها الاسلامية حتى رأينا في الانتخابات الأخيرة أربعة أحزاب إسلامية من بين سبعة تدخل البرلمان. أحدها يدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل كامل، وآخر وهو حزب العدالة والازدهار تتصاعد شعبيته بسرعة هائلة، ويتوقع له أن يصل لسدة الحكم في الانتخابات القادمة، ورأينا رئيسا إسلاميا للبرلمان وزوجته المحجبة التي خرجت لتدعو النساء إلى العودة للحجاب. الشعوب الاسلامية متعطشة لهويتها ولابد أن تسعى للتغيير في الهواء الطلق، ولا تتنازل لمنقذ خارجي أملا لمجرد عبور مرحلة. الأمم المسخ تهوى إلى مزبلة العالم والتاريخ.