رفض البابا شنودة قبل أيام الإجابة عن سؤال يتعلق بموقفه من الدكتور محمد البرادعي ورغبته في الترشح لرئاسة الجمهورية وخروج بعض الأقباط للمشاركة في استقباله ، وردد الرجل القولة الحكيمة : أنا لا أتدخل في السياسة ، غير أن السؤال الذي سيضطر إلى الإجابة عنه هو : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا أبديت رأيك بوضوح وصرامة في شخص جمال مبارك ، وأكثر من ذلك أبديت تأييدك الواضح والصريح لاختياره رئيسا للجمهورية خلفا لوالده ، وأكثر من ذلك عندما روجعت في الموضوع أكدت على رأيك ، حتى وصلت إلى تجريح الشعب المصري كله وإهانته بأنه ليس فيه شخص يصلح لرئاسة الجمهورية إلا نجل الرئيس ، لماذا غابت "الحكمة" السالفة عن موقفك مع جمال مبارك بينما استدعيتها مع الدكتور البرادعي ، أم أنك ترى أن تأييدك لجمال مبارك لا يعد تدخلا في السياسة أما تعليقك على الدكتور البرادعي فهو تدخل في السياسة ، لقد سبق وكتبت في هذه الزاوية ، في معرض انتقاد تصريحات البابا عن دعمه ترشيح جمال مبارك ، أن هذا توريط للكنيسة في مستنقع السياسة وأن من يدخل بهذا الوضوح فعليه أن يتحمل "رشقات الوحل" التي ستصيبه ، وأظن أن الورطة بدأ يشعر بها الآن وبوضوح البابا شنودة ، الحراك الذي أحدثه الدكتور محمد البرادعي في الحياة السياسية المصرية الآن هو الأهم والأخطر منذ انتفاضة القضاة ، وأنا على يقين من أن دوائر رفيعة في أعلى هرم السلطة تتدارس الآن هذا التحدي وكل خطواته واحتمالات المستقبل ، سواء إذا قرر الترشح في انتخابات الرئاسة المقبلة أو ممارسة دوره كزعيم إصلاحي لإجراء تعديلات دستورية وسياسية شاملة في مصر ، وهناك قلق شديد من الدور الذي بدأ يلعبه البرادعي ، والذي يتصرف الآن بطريقة فيها استعلاء واضح على مجمل الحالة السياسية الرسمية في مصر ، وهو محق فيه قطعا ، لأنه لا يريد أن يلعب وفق الديكورات الموجودة ، وأظن أن تشكيل الجمعية المصرية من أجل التغيير في صورة رموز وأشخاص بما يشبه هيئة تأسيسية ، وبصورة تتجاوز الأحزاب كمؤسسات ، هو إشارة واضحة إلى هذا الأمر ، وإذا كان البرادعي قد أحدث قلقا لدى دوائر السلطة ، فقد أحدث قلقا أيضا في دوائر كثيرة ، معارضة ومستقلة وإسلامية ومسيحية ، وفي الجانب المسيحي هناك أزمة كبيرة الآن ، تتمثل في انقسام النخب المسيحية بين مشروع التوريث الذي يدعمه البابا شنودة شخصيا ، ومشروع التغيير المأمول بمعالجة شاملة للقضية القبطية الذي يمثله الدكتور البرادعي ، وهو المشروع الذي يدعمه بقوة أقباط المهجر والعلمانيون المسيحيون في الداخل ، وكلا الجهتين ، البابا وأقباط المهجر ، يتخذ موقفه ليس من رؤية إصلاح وطني مصري شامل ، وإنما من جهة "الأجندة الطائفية" التي يأمل في تحقيقها عبر "مرشحه" المنتظر ، ومدى المكاسب "المسيحية" التي يمكن أن تتحقق عبر مشروع هذا أو ذاك ، من الذي سيتمكن من فرض رؤيته في الحالة القبطية في مصر ، يصعب التكهن بذلك الآن ، وإن كان النفوذ الروحي والمادي للبابا في الداخل يرجح كفة الاتجاه الذي يمثله ، والمتمثل في دعم الأقباط لمشروع التوريث ، خاصة وأن التصريحات التي أطلقها البابا تجاه جمال مبارك هي من النوع الصريح والحاسم والمتكرر والذي يصعب أخلاقيا التراجع عنه ، غير أنه ليس من المستبعد أن تمارس الكنيسة "ابتزازا" سياسيا لمعسكر التوريث باستخدام ورقة "البرادعي" كضغط ، لاحتلاب المزيد من القرارات السلطوية "المجاملة" التي تحقق مطالب طائفية ولو كانت غير منطقية ، هناك اضطراب الآن في الموقف القبطي ، مثلما هناك اضطراب في مواقف إسلامية ومعارضة ومستقلة ورسمية تجاه الدور المفاجئ للبرادعي ، وأتصور أنه اضطراب إيجابي ، بكل ما يصحبه من جدل وهواجس ومخاوف وآمال وتفاؤل ، والمأمول أن يصب في النهاية لصالح خير هذا البلد وأهله ومستقبله . [email protected]