لم يكن الإسراء مجرد حادث فردى بسيط، رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآيات الكبرى، وتجلت له ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعيانًا، بل زيادة إلى ذلك – اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان عميقة دقيقة كثيرة، وإشارات حكيمة بعيدة المدى، فقد كانت البداية من المسجد الحرام وكانت النهاية فى المسجد الأقصى، وفى هذه دلالة عجيبة، فمَن صحت بدايته صحت نهايته، والمسجد الحرام منبت الملة ومصدر التوحيد، فعلى قدر قوة أهل التوحيد، وتمكن الإسلام فى القلوب يكن الوصول سهلاً إلى المسجد الأقصى، فلن يتحرر الأقصى ويصله المسلمون، كما وصله رسولهم صلى الله عليه وسلم، إلا إذا صحت وطهرت قلوب المتوجهين إلى المسجد الحرام. بداية المعراج: وإذا أراد المسلمون الوصول إلى المعالى وتقوية الصلة بالسماء، وبداية المعراج الحقيقى، فلابد لهم من الوصول أولاً إلى أولى القبلتين، وكأنه لا عز ولا شرف للمسلمين ولا معراج ولا وصول، إلا إذا انطلق من المسجد الأقصى، فمهما حقق المسلمون من رفعة وازدهار حضارى ومادى، فلا معنى له، والأقصى أسير. إمامة النبى وريادة المسلمين: جاءت حادثة الإسراء لتؤكد عالمية الرسالة، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو نبى القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت فى شخصه وفى إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى الأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانًا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف الزمان والمكان، وأفادت الحادثة التى جاء ذكرها فى سورتى الإسراء والنجم، تعيين شخصية النبى صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التى بعث فيها وآمنت به وبيان رسالتها ودورها الذى ستمثله فى العالم، ومن بين الشعوب والأمم. الإسراء خط فاصل: جاء الإسراء – كما يقول أبو الحسن الندوى (فى السيرة النبوية، ص:169): خطًا فاصلاً بين الناحية الضيقة المؤقتة وبين الشخصية النبوية الخالدة العالمية، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيم أمة، أو قائد إقليم، أو منقذ عصر، أو مؤسس مجد، لم يكن فى حاجة إلى الإسراء والمعراج، ولم يكن فى حاجة إلى سياحة فى عالم الملكوت، ولم يكن فى حاجة إلى أن تتصل بسببه الأرض بالسماء اتصالاً جديدًا، لقد كان له فى أرضه التى يعيش فيها وفى محيطه الذى يكافح فيه، وفى مجتمعه الذى يسعى لإسعاده غنى وسعة، لا يفكر فى غيره، ولا يتجاوز إلى أخرى من الأرض، فضلاً عن السماوات العلى، وسدرة المنتهى، وفضلاً عن المسجد الأقصى الذى يبعد عن بلده بعدًا كبيرًا، والذى كان فى ولاية الديانة النصرانية وحكومة الأمة الرومية القوية. وجاء الإسراء، وأعلن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليس من طراز القادة والزعماء الذين لا تتجاوز مواهبهم، وجهودهم، ودوائر كفاحهم حدود الشعوب والبلاد، ولا تسعد بهم إلا الشعوب التى يولدون فيها، والبيئات التى ينبعون منها، إنما هو من جماعة الأنبياء والرسل الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض، ويحملون رسالات الخالق إلى الخلق، وتسعد بهم الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها وعهودها وأجيالها. القبلة الأولى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس، ومضى على ذلك ستة أشهر بعد ما قدم المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يصرف إلى الكعبة، وكان المسلمون العرب – وقد رضعوا بلبان حب الكعبة وتعظيمها، وامتزج ذلك بلحومهم ودمائهم لا يعدلون بالكعبة بيتًا، ولا بقبلة إبراهيم وإسماعيل قبلة، وكانوا يحبون أن يصرفوا إلى الكعبة، وكان فى جعل الكعبة إلى بيت المقدس محنة للمسلمين، ولكنهم قالوا: سمعنا وأطعنا. وقالوا: "آمنا به كل من عند ربنا"، فلم يكونوا يعرفون إلا الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخضوع لأوامر الله، وافقت هواهم أم لم توافقها، واتفقت مع عاداتهم أم لم تتفق. والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة، لماذا جعل الله بيت المقدس القبلة الأولى للمسلمين، على الرغم من الحب الشديد للكعبة؟ لا شك أن ذلك يعنى أشياء كثيرة منها، أن للمسجد الأقصى مكانة عظمى عند الله عز وجل، ولا بد أن ينتبه المسلمون إلى تلك الأمانة. إن شرف المسلمين وعزهم مرتبط بهذا المسجد، فهو بمثابة الأصل والماضى والبداية والمطلق، ومن لا أصل له ولا ماضٍ لا حاضر له ولا مستقبل. هذا المسجد الذى زاره النبى صلى الله عليه وسلم، وهو تحت سلطة غير المسلمين، وفيه إشارة بليغة إلى أن هذا المسجد محط أنظار الجميع، والكل يريد أن يسيطر عليه لتتحقق له السيادة والعزة، فعلى المسلمين أن يتيقظوا له، ويبذلوا كل غالٍ ونفيس فى سبيل تحريره والحفاظ عليه. وما زالت فى القبلة الأولى وبداية المعراج دروس وعبر، وهذا قليل من كثير، نسأل الله أن يحرر الأقصى الأسير، وأن يرزقنا جهادًا فيه، وصلاة فى محرابه.