تجاوزت معاني السياسة -خاصة في قمة تطورها في العالم الغربي- مهمة تحليل ما يجري من وقائع وأحداث على الأرض، إلى محاولات التنبؤ واستشراف المستقبل، وأصبحت أهم وظائف التحليل السياسي هي رسم سيناريوهات المستقبل، ومحاولة معرفة نسبة تحقق كل سيناريو. حيث لم يعد سؤال المستقبل لونًا من ألوان الترف الفكري والاجتماعي والعلمي بل أصبح علمًا قائمًا بذاته له أسسه ومعاييره ومحدداته الفلسفية والعلمية الواضحة. لقد أصبح واضحًا أن استمرار حياة الأمم والحضارات وتقدمها ونهوضها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى تجذّر عقلية التفكير المستقبلي في البنية الذهنية والعملية لتلك الشعوب، باعتبار أن نهوض الأمم وتطورها ونجاحها، أو تأخرها وفشلها، يجري وفق قوانين ونواميس وسنن ثابتة كونيًا وتاريخيًا: قوانين لابد من اكتشافها وإدراكها، ونواميس يتعين احترامها، وسنن لابد من معرفة نظامها، والاستجابة الفاعلة لها، مسايرة لا مصادمة. وإذا كنّا نعجز كمجتمعات ودول عن إدراك واستيعاب مفردات الواقع الذي نحيا فيه، فكيف بمحاولة تقديم تصورات ورؤى مستقبلية، ذلك أن الاستشراف في أبسط معانيه هو فن وعلم استكشاف المستقبل. والاستشراف هو ضد العشوائية والاستسلام لمقتضيات الواقع، وهو في جوهره محاولة استخلاص عناصر تنبُّئِيّة، ومحاولة سبر أغوار القادم بهدف التعامل معه، ليس رفضًا له وإنما محاولة تطويره لمسايرة مستحدثاته، ومعايشة مستجداته، ومراجعة أصوله لاستنباط آليات التعامل معه. والاستشراف ليس نشاطًا فرديًا بل هو عمل جماعي وجهد منظم، يضم الأشخاص المؤهلين في اختصاصات مختلفة، مع توفير كل الإمكانيات اللازمة له ليتمكن هذا الفريق من القيام بعملية الاستشراف ووضع رؤية واقعية وصحيحة يمكن السير على هدْيها. والاستشراف ليس ضرورة فقط للدول والمؤسسات، لكنه ضرورة أيضًا لبناء الفرد والمجتمع، فالمجتمع غير القادر على رسم خطوات المستقبل سيغوص في هموم الحاضر، وسينحصر في ثقافة الماضي، ويظل يعيش رهين محبسيه: الجمود والتخلف، وهذا ما يبدو عليه حال واقعنا المصري. وإذا كانت السياسة استشراف فإن هناك ثلاث مهمات لهذه السياسة المبنية على قراءة دقيقة لإمكانات الواقع الكامنة والمحتملة: أولها: بناء بدائل مستقبلية محتملة. وثانيها: تقييم احتمال وقوع كل بديل. وثالثها: تقييم درجة الرغبة والقبول بكل بديل. ومن ذلك نجد أن الاستشراف أصبح علمًا له أصوله وتقنياته، علم مبني على منطق الاحتمالات، وليس رجمًا بالغيب مبني على الخيال أو الحسّ المجرد أو التخمين والظن. وما يحدث في مصر من صراع بين الحكومة والمعارضة ليس من السياسة في شيء، فهو انغماس فج في اللحظة الراهنة، وإدارة مختلف المشاكل السياسية بمنطق الحياة والموت، وبأسلوب صفري يستحوذ المنتصر فيه على كل شيء، ويخرج الخاسر فيه خاليًا الوفاض من كل شيء، لذلك فهو صراع أيديولوجي وجودي يتجاوز مصلحة الوطن العليا بل ويجبها. السياسة استشراف ومن ثم فإن هذا الاستغراق في الحاضر ومشاكله وقضاياه أو صراعاته ليس من السياسة في شيء، إذ أن السياسة التي أعنيها هي علم إدارة المستقبل، هي الرؤية الحاكمة لمجمل مسارات القادم. السياسة استشراف ومن ثم فإن إدارة مختلف الصراعات بمنطق صفري خسارة للجميع، لأنه في الحقيقة عجز عن تجاوز معادلات اللحظة وموازينها، وتحالفاتها وعداواتها. السياسة استشراف ومن ثم فإن محاولات إخراج الخصوم من دائرة العمل العام جملة ليس من السياسة في شيء، لأنه في الحقيقة اختيار ساذج للعب منفردا بلا حسيب ولا رقيب، وليس مجرد بلا منافس. السياسة استشراف ومن ثم فإن سحب نظام تحالفات الحاضر على المستقبل عمى وضلالة وإغفال ساذج لمستقبل التفاعلات السياسية، وما يمكن أن تحمله من تغيرات بل وتغير جذري في شبكات التحالف والصراع. إن نظرة سريعة على موقف حزب النور وانتقاله من مربع الحلفاء إلى مربع الخصوم والحرب النفسية التي شُنّت عليه ترينا إلى أي مدى أن هناك من يمارس السياسة بمنطق السماسرة مع توظيف فج للإسلام يحط من قيمته حينما يضحي بقيمه كالوفاء وحفظ العهود وسالف المودات على مذبح المواقف الظرفية والآنية. إن بيع الحلفاء الاستراتيجيين والتضحية بهم قمة العبث في عالم السياسة، كما أن الانتهازية إن جازت بمنطق السماسرة والذين تهيكلت أنماط تفكيرهم على العمولات والصفقات وإجراء المساومات واللعب تحت الطاولة لا يجوز في منطق الأحزاب السياسية المحترمة ولا الجماعات التي تزعم انتسابها للإسلام. آخر كلام: الاستشراف هو: "اجتهاد علمي مُنظَّم، يرمي إلى صوغ مجموعةٍ من التوقُّعات المشروطة (الافتراضات المحدَّدة مسبقًا) التي تشمل المعالِم الرئيسة لأوضاع مجتمع ما، في فترة زمنية مقبلة، تمتد قليلًا لأبعد من عشرين عامًا"، وذلك عن طريق التركيز على المتغيرات التي يمكن تغييرها بواسطة إصدار القرارات.