وكما قال سيادة اللواء محمود سامى البارودى (1839م-1904م) وزير الحربية الأسبق (ماضى البصيرة غلاب إذا اشتبهت مسالك الرأى).. فإن مما تشير إليه الأحداث الأخيرة فيما يتعلق بإدارة شئون البلاد أننا أمام رئيس ينظر للأمور بعين البصيرة حين يتوجب عليه اتخاذ قرار قيادى يتصل بما يفرضه عليه الواجب من فروض. فى هذا المعنى هناك قضية من أعمق وأخطر القضايا التى يتعرض لها البشر فى مجريات الحياة تلك هى أن حركة الحياة ودورة التاريخ لا تخضع لرغبة الإنسان وهواه وقناعاته الشخصية. فسنن الله فى العالمين ونواميسه وقدره ورحمته وعلمه التى تتدخل فى صنع الأحداث والوقائع لا تتوقف ولا تستأذن بنى آدم من أجل أن تمضى فى مسارها دفعا لحركة الحياة. وعلى الإنسان نفسه بصفائه العقلى والروحى وعين بصيرته أن (يكتشف) ما يجرى حوله فى هذه الدنيا. يقولون إنه ليس هناك أفكار جديدة يوجدها الإنسان بعد أن لم تكن.. فقط يظهر من يستطيع اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء والأحداث والأفكار.. فيرى بعين بصره وبصيرته تضاريس الحياة حوله من جزر وبحار وهضاب وسهول ويرسم لها الخرائط التى تساعد على السير السليم فى ممراتها وطرقاتها طبقا لما توصل إليه. وهو بذلك يكون قائدا متبصرا. التبصر بالعوامل غير المرئية التى تحرك التاريخ وتسير مع مجرى الزمن فى العمق.. خصيصة سياسية بامتياز!! عند من يعرفون ماذا تعنى السياسة وماذا يعنى التاريخ. (يقولون إن الصدفة تصنع السياسة فى نظر المغفلين وحدهم). لكن للأسف كثير من السياسيين لا يهتمون بفهم ذلك ومعرفته بالقدر المطلوب ويميلون لممارسة السياسة بأسلوب (الصنايعية).. وسواء كان ذلك لأسباب ذاتية تتعلق بمدى بعد النظر ودقة الملاحظة_ وهما من أهم متطلبات العمل السياسى _ أو بما حدثنا عنه الإمام الغزالى ثم برجسون فيما وصفوه (بالحدس) أو المعرفة بالروح.. أو كان ذلك لأسباب تتصل بالإلمام المعرفى والدراية الواسعة بالعصر والتاريخ _ وهما أيضا من أهم متطلبات العمل السياسى_ لن أذهب بعيدا ولن أتلفت حولى حين أقول إن اتخاذ (القرآن) مرجعا وميزانا ومعاودة النظر فيه المرة بعد المرة بعد نظر عميق وسبيل مباشر لتنمية (عين البصيرة) ووسيلة أساسية لبلورة فهم الحياة وما يجرى فيها على كل المستويات. (القرآن) يجعل الإنسان من الداخل فى دائرة النور كما يقولون وهو يعلو بالإنسان فى أوقات التشابك والاشتباك واشتداد الصراع وغموض المشاهد.. لأنه يكشف سنن الله فى حركة التاريخ والحياة على مسارات التدافع والصراع فيرتقى الإنسان إلى مشارف عالية ويغدو قادرا على استشراف المشهد كله.. هذا الكلام ليس مجرد دروشة، بل حقيقة من حقائق الحياة.. لن نعيد اكتشاف العجلة.. وأرجو ألا نكون ممن وصفهم إيليا أبو ماضى (وعلمت حين لا يجدى العلم الفتى** أن التى ضيعتها كانت معى). لا أخفى عليكم أننى كنت متحفظا قليلا على غلبة المكون الدينى فى خطابات السيد الرئيس.. وقلت فى نفسى أن هناك المئات من الكلاب العقورة تقف على باب بيته اتصالا بهذا الموضوع بالذات.. فلم يمنحهم الفرصة لذلك..؟ لكننى سرعان ما اكتشفت أن الموضوع ليس كذلك.. فالرجل لن يكون إلا نفسه مهما تصايح الصائحون أو تصاخب الصاخبون.. وإن ما نراه فى محاولة فهم (الظاهرة المرسية) له قربى شديدة فى العمق الوجدانى للرجل.. وهى قربى لا تعبر عن حالة (دروشة) بقدر ما تعبر عن حالة (بصيرة).. ولا تعبر عن حالة (تدين) بقدر ما تعبر عن حالة (وعى تاريخى). لست مندهشا فى واقع الأمر من الهجوم الذى يتعرض له الرجل من بعض النخب فى محاولة قبيحة للحط من قدره.. وهى النخبة التى عاشت طول عمرها فى خصومة لدودة مع القيم التى يكرهونها و(يشمئزون) منها والتى يمثلها الرجل.. وأستطيع أن أفهم حالتهم النفسية التى يكونون عليها وهم يسمعون السيد الرئيس يملأ خطابه بالآيات القرآنية.. وهو ما يفسر الحجم الهائل (للقاذورات) التى تخرج من أفواههم تجاه (مقام الرئاسة) الذى يمثل هيبة الوطن.. وحينئذ لا وجود لكلمة وطن وشعب ومستقبل وتاريخ.. لا وجود إلا لنيران الكراهية البغيضة وإن احترق الوطن وأهين الشعب.. من أى صخر قُد هؤلاء الحمقى المتاعيس؟؟ على مدى قرنين من الزمن والجهود لا تكل ولا تمل ولا تنقطع لإقصاء الإسلاميين إقصاء تاما عن مجرد الحلم بقصة الحكم والسياسة.. وحالة الشراسة اللامتناهية التى قام بها جنرالات فرنسا ضد الإسلاميين فى انتخابات 1992م فى الجزائر لم تكن تعبر إلا عن حالة (يقين نهائى) لدى النخب العربية بخصوص هذا الأمر. وكانت مقصودة فى معناها ومبناها وتذكرون زيارة الرئيس السابق لهم فى عز الأزمة.. ليشد على أياديهم ويمنحهم (مباركة) عربية عامة لبحر الدماء الذى سال على مذبح (منع) الإسلاميين من الاقتراب من السلطة. (جيش الشعب) فى مصر الذى أسس للجمهورية ويرعاها.. ما كان له أن يستدرج إلى هذه المزالق العسرة وقياداته تتوارث فيما بينها قدسية (الشرعية) فى مدار السياسة والحكم.. ونموذج عزل المشير عبد الحكيم عامر 1967م وعزل الفريق محمد فوزى 1971م نموذجا تاريخيا لتعامل هذه المؤسسة الوطنية مع القرار السياسى والشرعية التى تنتجه بغض النظر عن الملابسات التى اكتنفت النموذجين. لكننا اليوم أمام نموذج على درجة عالية من التحضر والرقى يليق بالثورة والدولة والوطن والجيش.. ويشير إلى كم هى (حديدة) عين البصيرة التى لدى هذا الرجل حين أصدر تلك القرارات وفى هذا التوقيت. كثير من المتابعين يقطعون بأن الرئيس لم يرجع فى هذه القرارات إلى إخوانه القدامى فى التيار الإسلامى العريض.. وحيث إن معظمهم لا يميل إلى هذه الطريقة فى المعالجة.. فحسناً فعل.. على الجميع إذن _ هنا وهناك _ أن يهيئوا أنفسهم لمرحلة تاريخية جديدة قد لا تساعد مكونات الماضى القريب فى فهم مساراتها بالقدر الكافى.. وكل ميسر لما خلق له. نحن الآن نشاهد تطورا لمستقبل بلادنا لا يتضمن الترسيمة الثلاثية المعهودة (ماضى حاضر مستقبل)، بل مستقبلا مشحونا بالمفاجآت الجميلة إن شاء الله.