فاجأتنا جريدة "الشروق" بالتحقيق الرائع الذى أعده الصحفى الواعد جرجس فكرى، ونشر يوم الأحد 12/5 حول العزلة التى فرضت على إخوتنا الأقباط بعد وصول مجموعة البابا شنودة الثالث إلى المقر البابوى وضربهم لسور حديدى حول شعب الكنيسة، مخالفين بذلك نصيحة أحد أهم الآباء فى تاريخ الكنيسة القبطية (الأب متى المسكين)، عن خطورة العزلة القبطية وخطورة أن تتحول الكنيسة إلى مجتمع بديل عن الوطن. والموضوع فى حقيقته أعمق وأعقد قليلاً مما ذكره الأستاذ جرجس فى الشروق، فالمجموعة التى تحدث عنها ونسب إليها العزلة التى يعانى منها إخوتنا الأقباط (نظير جيد وسعد عزيز ووهيب عطا الله...) والتى فتح لها الأب متى المسكين أبواب الأديرة للرهبنة وصار (أب اعتراف) لمن سيصبح خصمه اللدود فيما بعد (نظير جيد).. هذه المجموعة كانت تشكل فيما بينها جماعة (الأمة القبطية) التى أعلنت عن نفسها فى أول شهر توت القبطى 1669 (11/9/1952م) وكانت بحق أول إفراز ثورى لمدارس الأحد التى تأسست 1918م فى عهد البابا كيرلس الخامس (1874-1927م) بغرض مواجهة التبشير البروتستانتى المنتشر فى مصر خلال القرن التاسع عشر، ولا تذكر مدارس الأحد إلا ويذكر معها اسمًا من أهم الأسماء فى تاريخ الكنيسة القبطية حبيب جرجس (1876-1951) رئيس الشمامسة والذى ينسب إلية تعبير (الأمة القبطية)!! سنة 1955 سيتغير اسم مدارس الأحد إلى (مدارس التربية الكنسية) التى سيتسلمها وهيب عطا الله (الأنبا غريغوريوس).. سنة 1962 سيقوم الباب كيرلس السادس (بابا المصريين) باحتواء النزعات الساخنة عند هذه المجموعة وتوجيهها توجيهًا نافعًا بترسيم نظير جيد مسئولاً عن (التعليم الكنسى).. إلى أن يأتى بطريركًا للكنيسة المصرية 14/11/1971. كان وصول الرجل إلى الكرسى البابوى ثمرة عمل تنظيمى شاق وطويل، بدأ بالبيان الذى أصدرته جماعة الأمة القبطية فى نوفمبر 1953، مطالبة بأن يكون نائب الرئيس قبطيًا، وألا ينص الدستور على أن الإسلام دين الدولة وهو البيان الذى سبقه فعل عنيف غريب ومثير بخطف الأنبا يوساب الثانى واحتجازه فى دير مارجرجس، لكن الدولة الوليدة تدخلت بقوة وأعادت الأمور إلى نصابها. لكن المتابع للشأن القبطى يقف كثيرًا عند اسم كبير بحجم اسم الأب متى المسكين.. المولود مع ثورة 1919 والحاصل على بكالوريوس صيدلة سنة 1944.. والذى سيفتتح لنفسه صيدلية فى مدينة دمنهور وبعد أن يحقق نجاحًا كبيرًا يقرر بيعها وتوزيع ثمنها على الفقراء والتوجه إلى الرهبنة بدير الأنبا صموئيل فى الصعيد.. الأنبا متى المسكين يسمونه (أبو الرهبنة)، وله كتاب ضخم (حياة الصلوات الأرثوذكسية)، ترجم إلى الإنجليزية، ويعد من أهم الأدبيات العلمية للمسيحيين الأرثوذكس فى العالم كله.. وهو الذى اكتشف مواهب (نظير جيد روفائيل) ورعاه وأقنعه بالرهبنة.. بعدها سيكون على (نظير جيد) أن يختار بين أستاذه ومستقبله.. فبعد اختيار الأب متى ليكون وكيلاً للبطريركية فى الإسكندرية سيحقق شعبية طاغية وتتحرك الأمور باتجاه اختياره بطريركًا لكن التقارير ذكرت أنه (شيوعى!!)، فجاء الأنبا كيرلس السادس الذى لم يكن يحمل ودًا كثيرًا له فيأمره بمغادرة بيت التكريس فى حلوان، فيذهب إلى وادى الريان مصطحبًَا معه تلميذه النجيب نظير جيد (أنطونيوس السريانى)، الذى سرعان ما سيجد نفسه بين (قرنى الإحراج).. فيختار ما اختار ويعلنها حربًا لا تنطفئ على أستاذه وأبو اعترافه.. ويكون الصدام بينهما مرًا إلى أبعد درجة ونتائجه بعيدة إلى أكبر حد. وتزداد الروابط التنظيمية القديمة بين جماعة الأمة القبطية وتنتهى إلى كرسى البابوية كما ذكرنا قبل.. ويستمر الأب متى المسكين قابضًا على جمر مبادئه وهو يرى أمام عينيه كيف يتم سحب الأقباط من الوطن وسجنهم داخل الكنيسة فى إطار تنظيمى صلب ومحكم.. أقرب ما يكون إلى التنظيمات العسكرية.. وهو ما كان قد حذر منه بقدر كبير من عدم الرضا والدهشة فى كتابه (بين الدين والسياسة)، الذى جمع فيه مقالات كتبها ما بين 1961 و1969 عن علاقة الكنيسة بالسياسة وقدم فيه إجابات – دينية - لبعض المعضلات التى تواجه الكنيسة والشعب المسيحى، مثل علاقة الكنيسة بالوطن والسلطة الزمنية. وأيضًا الفرق بين الخدمة الروحية والخدمة الاجتماعية، وما هى حدود تدخل الكنيسة فى حياة الأفراد، ومتى يتحول تدخل الكنيسة من مجرد إرشاد روحى إلى تسلّط وفرض وصاية على المواطن المسيحى، خاصة فى العلاقة بأنظمة الحكم، وهل يجب أن يكون للكنيسة دور فى تلك العلاقة أم لا، كان يرى كل ذلك يتشكل أمامه فى هدوء، وإن لم يولد بعد.. وعبثًا ذهبت إجابات الرجل الكبير، فقد كان الزمن القادم هو زمن الزعامة المتفردة والتنظيم الحديدى. وينتهى كل شىء وتنجح ثقافة التنظيمات المغلقة فى الاستيلاء على الشرعية البابوية.. ولم يكن كل ذلك إلا الفصل الأخير فى عملية تاريخية طويلة. الآن وبعد رحيل الصديقين اللدودين (الأب متى والبابا شنودة)، وبعد أن يكون التاريخ قد وثب إلى الأمام وثبة واسعة الخطى فى اتجاه المستقبل.. يجد المجتمع نفسه أمام ثقافة كنسية لا تتفق ومعطيات المستقبل الجديد والمجتمع الجديد، خاصة أن قيادات العهد الجديد ما زالت تعيش حتى الآن على الزاد التنظيمى والفكرى الذى تركة البابا شنودة وأصحابه من جيل الأمة القبطية.. وهو ما يفتح أمامهم الباب واسعًا على قدر كبير من التحدى التاريخى فى الحركة باتجاه المستقبل الجديد.. فأغلبية الشباب تم طبعهم على الموقف السلبى من الإسلاميين، ثم هاهم الآن عليهم أن يقوموا بتطبيع سياسى واجتماعى وثقافى معهم، وهو ما يبدو عسيرًا وأحيانًا مرفوضًا.. وما تناقله الناس عن أحداث الاتحادية وتكوينات البلاك بلوك التنظيمية يثير كثيرًا من الأسئلة.. والقراءة التآمرية للأداء المتميز للبلاك بلوك تشير إلى انتمائهم إلى جهة تنظيمية صلبة وهو ما ليس موجودًا إلا لدى التيار الإسلامى العريض.. أو كشافة الكنيسة..!! وهو الأمر المليء بأسوأ الإيحاءات. ما زالت مواقف الراحل الكبير (متى المسكين) تاريخًا حيًا لدينا جميعًا.. وعلينا أن ننظر إلى الحقيقة فى عينها.. وعلى المثقفين الأقباط أن يكونوا طلائع الفهم والفكر باتجاه تفعيل كل ذلك إلى واقع يشكل حاضرًا ويصنع مستقبلاً.. لكن الأمر بهذا الصدد لا يحمل (بشارة) كبيرة، فما زال عدد غير قليل منهم رغم علمانيتهم المعلنة طائفيين بامتياز!!.. وإن أظهروا عكس ذلك.. وصدق من قال: ومهما تكن عند امرئ من خليقة .... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وما زال عدد كبير منهم يعيش فى دائرة (الصدمة الكبرى) من وجود الإسلاميين فى الحكم والسلطة.. ولو كان لى من نصيحة مسموعة فى هذا التوقيت وحول هذا الموضوع وأصدقائى الأقباط يعرفون صدق مشاعرى.. هى أن ينخرطوا فى التاريخ الذى يتشكل أمامهم الآن بكل ما يحملونه من صدق المواطنة ونقاء الإيمان.. وسيكون هذا الموقف من أعظم مواقف الكنيسة القبطية على طول تاريخها العتيد الملىء بكثير من مواقف الفخر والشرف، ولدينا البابا (مرقس الثامن) وموقفه العظيم من رفضه الجنرال يعقوب والفيلق القبطى فى جيش نابليون.. ولدينا البابا (بطرس السابع) وموقفه العظيم مع محمد على ورفضه لمعاهدة (كينارجى) التى كانت روسيا تريد بها حماية الأقباط. إذا كنا لا نحسن قراءة التاريخ أحيانًا.. فليس أقل من أن نحسن كتابته إذا وجب علينا ذلك.. سوق الزمارين المنصوب الآن عما قليل سينقشع وينفض.. إنها ليس مسألة (هل) بقدر ما هى مسألة (متى)؟ وحين نلتفت لن نجد إلا الوجوه فى الوجوه.. وما أقساها من لحظة إذا كانت غير محمودة السوابق.