الذي يحدثكم الآن هو واحد من المسلمين الذين يجتهدون في تأدية الفرائض .. رغم أنني حصلت علي الشهادة الإبتدائية من إحدى المدارس المعتمدة رسميا بكنيسة القرية (فناره بالإسماعيلية ) وحفظت جزءين من القرآن علي يد قسيس هذه الكنيسة . وأذكر كيف كان حريصا علي تحفيظي مباديء الدين الإسلامي ربما أكثر من حرصه علي تدريس مباديء المسيحية لزملائي بنفس المدرسة .. فكان يضربني إذا أخطأت في النطق الصحيح لألفاظ القرآن . أو حين أهمل في حفظ سوره وآياته .. وقد زمالت في (التختة ) أخي ( جرجس ) الذي كان أخي في الرضاعة أيضا . فقد رضعت من أمه السيدة (ماتيلدا ) التي رفضت طلب والدتي لها أن تفطمني إشفاقا عليها من القيام برضاعة اثنين من الأطفال معا .. وقد رفضت أمي ماتيلدا أن تفطمني إلا مع أخي جرجس الذي لم يكن قد أكمل فترة رضاعته بعد .. ! واذكر كيف كانت أمي ماتيلدا تشارك والدتي الصوم وتوقظها في السحور كما تشاركنا في عمل كعك العيد . وتشتري الملابس الجديدة لأبنائها أسوة بي وبإخوتي . ولم تكن أمي تستنكف أن أنادي سيدة غيرها بكلمة أمي فما بالك وهذه الأم الثانية كانت مسيحية ؟! هكذا كانت مصر كلها في الخمسينات والستينات قبل أن تعرف وباء التطرف والطائفية .. علي يد الكثيرين من الجهلة بالجانبين المسلم والمسيحي معا .. ودعونا نعترف كمسلمين أن الجهلة في الجانب المسلم أصبحوا كثر .. ممن يمارسون مظاهر التمييز والعنصرية ضد إخوانهم المسيحيين .. ولكن ينسي هؤلاء الإخوة المسيحيون أو يتجاهلون مظاهر التمييز التي يقومون بها بأنفسهم وكأن من حقهم أن يمارسوا تلك المظاهر علانية دون أن يفكر المسلمون في الرد عليها بالمثل فحينما تمارس التمييز لنفسك فأنت تمارس العزل والعنصرية ضد الآخرين في ذات الوقت .. وإذا كان الأخوة المسيحيون صادقين فعلا في إيقاف هذه المباراة السخيفة والمفتعلة بين الجانبين استعراضا لمهاراتهم الفردية أو الجماعية في التمييز .. فإن عليهم أن يكفوا هم أولا عن تلك الاستعراضات الطائفية التي تشكل استفزازا صارخا للأغلبية حولهم من المسلمين .. فالمبالغة في وضع الصلبان علي الصدور نوع من التمييز .. وعليهم أن يتذكروا أن المسيح عليه السلام لم يكن يضع صليبا علي صدره .. كذلك فإن وشم الصليب علي اليد نوع من التمييز .. والمبالغة أيضا في تعليق الصلبان من الحجم الكبير بما لا يتناسب في الغالب مع حجم الكنيسة نفسها نوع من التمييز .. وإطلاق الأسماء الأجنبية علي أطفالهم مثل (مايكل وميشيل وجاك وبترو وجورج) وغيرها .. نوع من التمييز .. خاصة وأن تلك السماء كلها مترجمة من العربية إلي لغات أجنبية .. مايكل وميشيل ( ميخائيل ) وجاك هو إسحاق وبترو هو بطرس وجون هو يوحنا وجورج هو جرجس .. فلماذا نترك أسماءنا العربية ونهجرها إلي ترجماتها الإفرنجية ما لم يكن القصد هو التمييز والانسلاخ عن النسيج العربي .. وممارسة العزل بالنفس علي النفس ؟! لم تكن مصر تعرف مثل تلك السماء الوافدة أو المجلوبة حين كنا أصحاء من مرض الطائفية . فقد كانت لدينا أسماؤنا التي لا نعرف إن كان صاحبها مسلما أو مسيحيا مثل أمين وطلعت وعزت وبهجت وإبراهيم وعيسي وموسي ونبيل وصادق بل كانت أسماؤهم تؤخذ من القرآن نفسه مثل اسم (وجيه ) وهي الصفة التي أطلقها الله علي عيسي في القرآن ( وجيها في الدنيا والآخرة) .. وقد هجر إخوتنا المسيحيون كل تلك الأسماء المحايدة .. حين قرروا التخلي عن نسيجهم العربي والانحياز لطائفتهم التي انتقلوا منها متجهين إلي الغرب باستدعاء أسماء أجنبية تميزهم عن غيرهم من المصريين وتعزلهم عن أبناء وطنهم ! كثيرون هم الذين يتحدثون عن التمييز من جانب المسلمين . ولكن أحدا من هؤلاء لا يذكر شيئا عن تمييز المسيحيين لأنفسهم بغرض الانسلاخ والعزل ورفضا للاندماج والتوحد . ومن يمارس التمييز علي نفسه وبنفسه . لا يحق له أن يشكو إذا مارسه عليه غيره في الجانب الآخر . وإذا أراد المسيحيون حقيقة أن يضعوا نهاية للتمييز والعزل فعليهم أولا ألا يمارسوه علي أنفسهم وبأنفسهم .. حتي يحق لهم – ولنا أيضا – أن نطالب المسلمين بالكف عن ممارسة تلك الظواهر المرضية .. التي تصيب الوطن في مقتل .. ! إنني أطالب بذلك وأدعو إليه مخلصا وفاء لذكري أمي (ماتيلدا ) واعترافا بجميلها .. وجميل ( أبونا ) راعي كنيسة القرية الذي علمني القرآن صغيرا ..!!