صورتان عجيبتان ومتكررتان عبر التاريخ؛ خاصة عند لحظات التحولات الحضارية الفاصلة. وهما من السنن الإلهية الاجتماعية التي لا تتبدل ولا تتغير وتتكرر دومًا أينما وجدت الظروف المواتية. والعجيب أننا عاصرناهما مع تداعيات ثورتنا؛ بل ومع كل ثورات الربيع العربي. وعندما نتأملهما لا نستغرب هذه الأسئلة التي حيرت علماء الاجتماع؛ الذين غفلوا عن مغزاها التربوي؛ الذي وضحه القرآن الكريم؛ وأبرزها: أهكذا يصنع مناخ الاستبداد والقهر بالنفس البشرية؟!. ألهذا الحد تمسخ الفطر الإنسانية بفعل الطغاة؟!. ألهذا الحد تنتكس الجماهير الغافلة؟!. الصورة الأولى: التبرؤ بعد الزوغان: وهي التي وصفت الحالة المجتمعية لحظات هلاك قارون أحد طغاة التاريخ: "وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ". [القصص82] لقد صار الذين تمنوا حاله بالأمس يقولون متوجعين ومعتبرين وخائفين من وقوع العذاب بهم: إن الله يوسِّع الرزق لمن يشاء من عباده, ويضيِّق على مَن يشاء منهم, لولا أن الله منَّ علينا فلم يعاقبنا على ما قلنا لَخسف بنا كما فعل بقارون. ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون, لا في الدنيا ولا في الآخرة؟!. هكذا كانت الحالة المجتمعية لحظات هلاك قارون. ونؤكد أنها أيضًا تتكرر مع كل اللحظات التاريخية التي تواكب هلاك أي طاغية عبر التاريخ!؟. ونتذكر جميعًا حجم الفرح الجنوني والنشوة اللاشعورية العارمة؛ التي عايشناها لحظات تنحي المخلوع؛ خاصة من كان في ميدان التحرير. ورأينا جميعًا كيف تحولت أغلب الرموز السياسية والفكرية والإعلامية؛ بل وكل الأطياف السياسية والمجتمعية؛ والتي لا نستثني الإسلامية منها؟!. لقد تحولوا من حالة زوغان الأبصار؛ والانخداع بالرغبة في بريق ذهب المعز، والخوف من سيفه. فعاشوا أو حاولوا العيش في تياره والاستظلال بسلطانه والكمون في كنفه عقودًا. ثم تحولوا بعد لحظات الذهول من ذهابه، والصدمة من هلاكه، إلى حالة من التبرؤ منه ومن نظامه، والخوف من أن يوصموا بأنهم كانوا محبين له أو معاونين له أو مشاركين له!. والبعض منهم زاد في وهمه؛ فأعلن أنه كان من ضمن الثائرين عليه، والناقدين لنظامه؛ بل ومن صناع الثورة!؟. والبعض اضطر إلى الانزواء في كهوف الخزي والخذلان!. والبعض الآخر أصيب بحالة من الشلل الفكري والخرس الإعلامي. ثم رأينا كشوف قوائم العار السياسي والفكري والإعلامي والفني. وظهرت مصطلحات الفلول، وأذناب النظام ومخالب المخلوع. الصورة الثانية: عاشقو الذل وعبيد الاسترقاق: ثم فوجئنا بصورة لحالة مجتمعية شائهة أخرى. فلم تكد تمر أيام قليلة على العيد الثاني لميلاد ثورتنا؛ حتى شاهدنا تغير الحال المجتمعي، وزوال خطر الثورة على أذناب المخلوع، وتفرق فرقاء الميدان؛ حتى رأينا البعض يحنون إلى أيام الطغيان ويجاهرون بأنهم سدنته ورجال طغيانه!. وبلغت الذروة عندما هالنا تبجح المخلوع وهو يلوح بيديه من خلف القضبان؛ وقد تحولت حالته الصحية والنفسية هو الآخر، وقد عجبنا من كمية المكياج؛ التي يخفي بها تجاعيد وجهه الثمانيني، وصبغة الشعر وتنعيمه وكأنه أحد ممثلي هوليوود. فتراقص محبوه الإعلاميون علانية، وتغنى مناصروه بالحنين إلى عودته!؟. تمامًا مثل هذه الصورة القرآنية التي وصفت سلوك بني إسرائيل؛ والذي انكشف عندما جاوزوا البحر مع موسى عليه السلام؛ فكان سلوكهم الغريب وانحرافهم السريع: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ؟. وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ". [الأعراف 138-141] هكذا وسريعًا حنت النفوس المنحرفة إلى سابق عهدها في عشق الذل وحب الطغيان والشرك!؟. وعند هذه الحادثة بدأت الجولة الثانية في قصة موسى عليه السلام؛ وهي قصته مع قوم بني إسرائيل، حيث كانت أصعب وأقسى من الجولة الأولى؛ وهي قصته مع فرعون وملئه. وهو مثال خالد ومتكرر في كل عصر وكل مصر!؟. وهو الدرس العظيم لكل فرد يتعامل مع أي مرؤوسين؛ تحت مسؤوليته حتى وإن كانوا أولاده!؟. وهي تلك السنة الإلهية الاجتماعية؛ التي توضح كيف أن المناخ الاجتماعي لأي أمة، إذا مر بمرحلة قهرية من الكبت الفكري، تنتج عن ذلك حالة من المرض السلوكي!. لقد كانت مرحلة قاسية لموسى عليه السلام؛(فهي مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون. إن موسى عليه السلام لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه، فقد انتهت المعركة مع الطاغوت، ولكنه يواجه معركة أخرى لعلها أشد وأقسى وأطول أمدًا إنه يواجه المعركة مع النفس البشرية؛ يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس، ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعًا. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلًا؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء. ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلًا؛ عاشوا في ظل الإرهاب. وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلًا للإرهاب والطغيان!. لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصيًا لهم بالناس: ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم!. وعملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني؛ هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة، مع هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل!. ومتاعب موسى عليه السلام في هذه المحاولة الضخمة التي يحاولها هي متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوسًا طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت!. إن جهد صاحب الدعوة في مثل هذه الحال لهو جهد مضاعف، ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفًا كذلك!!!. ولعل هذا جانب من حكمة الله عز وجل في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة!. ولعل فيها زادًا لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!). [في ظلال القرآن: سيد قطب] هَلْ نَحْنُ فِيِ حَاجَةٍ إِِلَىَ الْتِيِه؟ فهل كان التيه وضياع بني إسرائيل فيه أربعين عامًا؛ وانقراض هذا الجيل المريض؛ حتى يأتي جيلٌ جديدٌ ذو تربية صالحة وبيئة صالحة لحمل عبء استحقاقات التغيير وتحمل مطالب دخول بني إسرائيل إلى مرحلة العلو والريادة الحضارية؛ كان هو الحل لموسى عليه السلام مع قومه؟!. والآن عندما نرى البعض؛ وهم لا يقدرون حجم التحديات التي تواجه ثورتنا، وتواجه أمتنا؛ وقد انطبقت عليهم هاتان الصورتان للسنتين الإلهيتين الاجتماعيتين، ويقومون بسلوكيات غريبة وكأنها أدوات غير واعية في أيدي أبالسة يقومون بعملية تشويه ممنهجة ومنظمة لكل ما هو جميل في ثورتنا وسمعتها العالمية الرائدة؛ فنتساءل: هل سيحتاجون إلى تأهيل تربوي ونفسي واجتماعي حتى يشاركوا في استحقاقات مرحلة بناء مصر وصياغة قوتها الناعمة وعودة ريادتها الحضارية!؟. أم سيحتاجون لعودة موسى عليه السلام ليدخلوا تيهًا عصريًا؛ فيخلصنا من هذا النتاج النكد لعقود طغيان المخلوع ونظامه، وينقي صف المخلصين الثائرين الأحرار منهم؟!. E-Mail: [email protected]