سألني صديق حبيب عن فتوى طريفة: (مسألة فقهية تحتاج إلى فتوى: عندما أقابل أحداً مصمماً أن يعطي صوته لمرشح من نظام المخلوع. ويعشق جداً نائب المخلوع عمر سليمان أكثر من أبيه!. بل ويكره مرشحي التيار الإسلامي!؟. فهي يجوز شرعاً أن أقنعه أن يصوت لعمرو موسى من باب أن يختار الموت رمياً بالرصاص بدلاً من الموت حرقاً؟!). حصاد مر لمراحل تاريخية بائسة: فقلت له يا صديقي هذه ليست حالة فردية بل ظاهرة رأيناها في صور عديدة أبرزها جماعة (آسفين يا ريس)!؟. وهي الظاهرة الاجتماعية التي أصابت شعبنا وشعوب أمتنا التي عاشت وعاصرت مرحلتان تحدث عنهما الحبيب صلى الله عليه وسلم وهما مرحلة الملك العضوض أو النظم التوريثية والعشائرية ومرحلة الحكم الجبري أو النظم الديكتاتورية التسلطية القمعية. كما جاء في الحديث الذي يصف المراحل الخمس للناموسية التاريخية للأمة الإسلامية: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ... ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ... ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت". [مسند أحمد بن حنبل إسناده حسن] وهي الظاهرة التي يمكننا تفسيرها بتفسيرين: 1-التفسير الاجتماعي الشرعي. 2-التفسير الطبي النفسي. 1-التفسير الاجتماعي الشرعي: كبت الفكر يورث فكر الكبت!؟: وهو نفس ما جاء في تجربة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل. ولنتأمل أبرز مثال على طبيعتهم الشاذة وقابليتهم للإنحراف، عندما جاوزوا البحر مع موسى عليه السلام: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ؟. وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ". [الأعراف 138-141] عند هذه الحادثة بدأت الجولة الثانية في قصة موسى عليه السلام؛ وهي قصته مع قوم بني إسرائيل، حيث كانت أصعب وأقسى من الجولة الأولى؛ وهي قصته مع فرعون وملئه. بدأت مرحلة التعامل مع النتيجة التي أخرجت هذا الفساد والانحراف!. لقد انتهت الجولة الأولى؛ وهي مرحلة التعامل مع فرعون وملئه؛ وهي مرحلة التعامل مع الأسباب المناخية الاجتماعية التي أفرزت هذا السلوك الاجتماعي!. تلك المرحلة التي ظللتها حالة من (الكبت الفكري)!. وبدأت الجولة الثانية؛ وهي المرحلة الأقسى وهي التعامل مع قوم بني إسرائيل، أو مرحلة علاج ذلك السلوك الاجتماعي الشائه، والتعامل مع نوعية معينة من الفكر المنحرف؛ وهو (فكر الكبت)!. وهو مثال خالد ومتكرر في كل عصر وكل مصر!. وهو الدرس العظيم، الذي يجب أن تعيه كل أمة؛ وكل جماعة؛ تريد أن تحمل إلى البشرية منهج رب العالمين، في أي جولة تدافعية حضارية جديدة!. بل ولكل فرد يتعامل مع أي مرؤوسين؛ تحت مسؤوليته حتى وإن كانوا أولاده!. وهو تلك السنة الإلهية الاجتماعية؛ التي توضح كيف أن المناخ الاجتماعي لأي أمة، إذا مر بمرحلة قهرية من الكبت الفكري، تنتج عن ذلك حالة من الاعتلال في السلوك الفكري؛ تسمى فكر الكبت!. وفقه هذه السنة الإلهية الاجتماعية؛ وهي (ظاهرة كبت الفكر وفكر الكبت)، وقوة العلاقة بينهما يعتبر مفتاح التعامل مع الأمم والأفراد؛ وهي الظاهرة التي حللناها في كتابنا (فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية مركز الإعلام العربي بالقاهرة). لقد كانت مرحلة قاسية لموسى عليه السلام فهي (مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون. إن موسى عليه السلام لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه، فقد انتهت المعركة مع الطاغوت، ولكنه يواجه معركة أخرى لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً إنه يواجه المعركة مع النفس البشرية!، يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس، ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء. ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً؛ عاشوا في ظل الإرهاب. وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان!!!. لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس: ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم!!!. وعملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني؛ هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة، مع هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل!. ومتاعب موسى عليه السلام في هذه المحاولة الضخمة التي يحاولها وهي متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوساً طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت). [في ظلال القرآن: سيد قطب] 2-التفسير الطبي النفسي: الماسوشية تجتاحنا: وهذه الحالة كما قرأت عنها تحتاج إلى طبيب نفسي يشرح ويعالج حالة من يحب جلاديه ويعشق معذبيه ويلعق حذاء راكليه إنه مرض حب التعذيب الذاتي أو (الماسوشية). وهو عكس ما يتمتع به نظام المخلوع وكل النظم القمعية وهو (السادية) أي حب تعذيب الآخر والاستمتاع بذلك. ويطلق عليها علماء النفس عدة أسماء مثل: (الماسوشية المازوخية الخضوعية). وباللغة الانجليزية: (Masochism The Desire To Receive pain). وحب تعذيب النفس يتخذ أشكالاً وصوراً عديدة؛ بل ومراحل متنوعة من البسيطة العادية إلى المرضية. وتقريبا كل بني البشر لديهم هذه الصفة أي أن كل إنسان فيه ولو جزء ضئيل من الماسوشية حتى لو لم يشعر. فمثلا الميل لمشاهدة أفلام الرعب هو نوع من تعذيب النفس بالرعب والمشاهد المروعة. لكن هذه الاشياء البسيطة المشتركة عند الكثيرين تظل أموراً عادية وطبيعية. المشكلة الحقيقية تنشأ حين يستمرئ المرء تعذيب نفسه ويتفنن في اختراع وابتكار الاساليب المختلفة لتحقيق هذا!. أما حين يتخذ المرض أشكالاً متقدمة فإن الوضع قد يصل لمرحلة سيئة جداً حيث يمكن أن يجرح المريض نفسه أو يحدث بنفسه أضراراً بليغة كأن يتسلى بتمزيق جلده أو إحداث جروح في جسده ويحتاج الأمر في هذه الحالة إلى تدخل طبي نفسي ورعاية فائقة. مفاجأة ... افهم طبائع بعض خصومك: فالغريب والمفاجئ أن علماء النفس يقررون أن الماسوشية أصلاً من صفات النساء بينما السادية من صفات الرجال وقد تشاهد بذورها عند الطفل العدواني والطفل الخاضع منذ نشأته. فماذا تنتظرون من خصوم عبيد مردوا على الذل والاستعباد؛ يحتاجون لتيه كبني إسرائيل يتيهون فيه أربعين عاماً حتى يخرج جيلاً غيرهم يحمل العزة والكبرياء والتمرد على عبودية العباد؟!. أو خصوم ماسوشيين؛ يحتاجون لمصحات نفسية؟!. بل والأغرب أن يكونوا ذو طبائع نسائية مرضية!. والأكثر غرابة أنهم حصاد مر لنظم قمعية سادية, لها أصول وبذور طفولية عدوانية!؟. د. حمدي شعيب زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) خبير تربوي وعلاقات أسرية [email protected]