لم تبدأ بعد الآثار السلبية المتوقعة للعملية التي وقعت في ماراثون بوسطن على المسلمين داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، ولكن بوسعنا أن نتوقع أن هذه الآثار المتوقعة ومهما بلغت فداحتها فلن تكون بحجم ما نال الإسلام والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر وذلك لأسبابٍ شتى أهمها الفارق بين حجم العمليتين؛ وكذلك اختلاف منهجية العقلية الحاكمة للولايات المتحدة (ولو بتباين طفيف)؛ ثم -وهو الأهم- التباين الشديد الذي طرأ على الوعي العالمي بطبيعة الإسلام وقضايا المسلمين، إلا أن هذا لا يعني بحال أن هذه الحادثة ستمر مرور الكرام بردًا وسلامًا؛ دون أن يتأثر المسلمون بدرجة أو أخرى بتبعاتها، فمهما كان حجم الحدث فهو جرح للكبرياء الأمريكي سيثير فيهم الرغبة في الانتقام؛ بالإضافة على ما اعتدناه من استغلال اللوبي الصهيوني في أمريكا والغرب لتلك الأحداث أيًا كان حجمها كفرصٍ ذهبية لمخططاته في تشويه صورة الإسلام والاستعداء على المسلمين؛ فضلًا عما ستقوم به (اللوبيهات الصهيوأمريكية) في بلادنا العربية والإسلامية؛ من استغلالٍ عهدناه للمزيد من التشويه والقمع للحركة الإسلامية. لم تكشف لنا هذه العملية عن أسرارها بعد؛ وما تسرب عنها من المعلومات سرعان ما تعرض للتشكيك والتكذيب في صفحات أمريكية وليست عربية، ولكن مما قرأته في الأهرام للأستاذ كمال قبيسي وتحت عنوان "الشيشاني وأخوه والبلد الذي خانوه": تجولت لساعات في قناة أسسها المتهم القتيل باسمه الكامل في موقع "يوتيوب" الشهير، فلم أجد فيها شرائط فيديو لها علاقة بأي شأن ثقافي أو علمي أو تتضمن على الأقل محتويات قد تساعد أي شاب مثله عمره 26 سنة على أن يعمل ويطور من قدراته ويمضي في الحياة إلى الأمام، ولا وجدت تعليقًا له على محتويات فيديو آخر أثار اهتمامه بأي شأن في الحياة، بل رأيت في قناته شرائط تحريض ديني لآخرين فيها حقد وكراهية وتعقيدات تفسيرية مما يأباه الله ورسوله والمؤمنون، لم يكمل تعليمه ولم يتسع لكلية الدراسات العليا صدره أكثر من عامين وخرج مهزومًا، أما شقيقه الأصغر وشريكه بالتفجير، فأسوأ منه بكثير، أخلاقًا وكسلًا واستهتارًا وفقدانا للضمير، مع أنه طالب بكلية الطب، لكنك لا تجد أي معلومة تفيد بأنه مارس عملًا، ولو في العطلات، إلى درجة أنه حضر بعد يومين من التفجير حفلا لزملائه الطلاب، فرقص وفرح حتى الفجر، تاركًا البلد الذي حن عليه يبكي قتلاه. إذن القدر المتيقن أن الشقيقين لم يكونا طُلابًا للعلم الشرعي ولم يكن لهما شيخٌ مرشد باستثناء ما وجد على جهاز أكبرهما من مقاطع فيديو لشخصيات معروفة بتطرفها ولا يؤْثَر عنها علمٌ ولا فكر؛ وربما يؤدي بنا هذا إلى إعادة النظر في استمرار هذه الظواهر والذي أظنه في رأيي المتواضع أن الدوائر السياسية والثقافية اهتمت بقضية الإرهاب على حساب قضية أكبر وأخطر وهي التطرف، وأذكر أنني منذ سنوات حضرت محاضرة للمفكر الليبرالي الدكتور حمزة المزيني بعنوان"منابت التطرف الأسباب والحلول"، ورغم وضوح العنوان فإن المنطلقات الأيديولوجية للمحاضر وأهدافه الشخصية من محاضرته؛ جعلته يصرف جل حديثه إلى الإرهاب؛ باعتبار مظاهره هي الأكثر تأثيرًا وتنفيرًا للحضور من الحركة الإسلامية؛ مما حدا بي للتصدي للتعليق عليه مصارحًا إياه بأن ما قام به عملية فرار؛ وأنه هرب إلى الإرهاب رغم كونه مجرد مظهر للتطرف، ولكنه الجزء الصادم والمدوي؛ مما يجعل التعامل معه أسهل من الظاهرة الكبرى التي تحتاج إلى التشريح والتحليل. وكان مما قلته في تعليقي الذي عقبت به على المحاضرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذم فريقًا من المتطرفين لم يكن أحدهم قط يحمل سيفًا ولا يفكر بالخروج على المجتمع بالتكفير والتفجير، بل برز تطرفهم في تكليف أنفسهم ما لا تطيق؛ وما لم يأمرهم به ربهم، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه خبر الثلاثة الذين قال أحدهم: إني لا أتزوج النساء، وقال الثاني: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أقوم ولا أنام، خطب، عليه الصلاة والسلام، وقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (متفق عليه)، فتبرأ النبي، صلى الله عليه وسلم، ممن رغب عن سنته، وكلف نفسه ما لا تطيق، وهي أشد إشارة منه عليه السلام في نبذ التطرف، ولو كانت مظاهره محدودة وأصوله محمودة؛ لأنه سبيل لما هو أكبر وأخطر. اتفق لي قَدَرًا بعد عملية بوسطن؛ أن أطلع على صفحة وجدتها تجمع مجموعة من الفتاوى التي تتحدث عن أحكام مخاطبة غير المسلمين؛ وطبعًا الفتاوى المنتقاة لعلماءٍ لا يسعنا إلا أن نجل قدرهم ومكانتهم العلمية؛ ولكن المشكلة في جامعها الذي تعمد الأحادية والاقتصار على الفتاوى التي تخدم رؤيته دون ذكر (أو حتى الإشارة) إلى أن المسألة خلافية وفيها آراء أخرى؛ ولا مانع أن يشير أنها مرجوحة عنده بدلًا من تجاهلها بالكلية. ومما ورد في هذه الفتاوى أنك لا يجوز أن تقول لغير المسلم "الأخ" أو "أخي" مع سرد الأدلة؛ ويتفرع عن ذلك أنه لا يجوز أن تقول له "صديق" أو "رفيق" إذا كان على سبيل التودد؛ وكذلك الضحك إليهم لطلب المودة بيننا وبينهم لا يجوز، أما الجريمة الأكبر هي أن تقول له "سيد" أو "سيدي" مع سرد الأدلة؛ بل ولا أن تكتبها في خطاب أو طلب حكومي أو فاتورة أو شيك .... إلخ، بل ولا أن تستعيض عنها ب"مستر" أو "مسيو" لأنها تؤدي نفس معنى التكريم والسيادة، ويتفرع عن ذلك أن من أعظم الناس إثمًا وجُرمًا المذيعون ومقدمو البرامج والنشرات؛ الذين اعتادوا استهلال حديثهم بمقولة "سيداتي آنساتي سادتي"؛ وفيه إثمان عظيمان أولهما أنه يخاطب من بينهم المسلم وغير المسلم بمصطلح "سيد" وهو كما أسلفنا لا يجوز لغير المسلم؛ أما الإثم الثاني فهو يقدم الإناث على الذكور مخالفًا بذلك قوامة الرجال على النساء، ومتشبهًا بالكفار الذين يبدؤون بتقديم المرأة. الحقيقة أربكتني الفتاوى.. وطرحت أمامي العديد من الأسئلة الشائكة عن حجم الورطة التي نوقع فيها من كان جاره بالسكن أو زميله بالعمل أو ربما مديره أو رئيسه غير مسلم؛ فكيف يخاطب كل هؤلاء؟؛ وإذا كان هذا يمكن تسويغه في مجتمعات يغلب على أهلها الإسلام؛ فكيف حال من سكن بلاد الغرب وهو أقلية فيها يستفيد من خدماتها ويعيش بين أبنائها؛ ولو تمكنت تلك الرؤية الاحتقارية من ذهن مسلم يعيش في الغرب مثل صاحبينا الشيشانيين؛ فهل نستغرب إذن أن يقوما بما قاما؛ وأن يكون المبدأ هو القتل على الهوية لا على القضية (وأؤكد هنا أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته). المشايخ الذين نُسبت لهم هذه الفتاوى؛ هم من أشد المناهضين للتكفير والتفجير والقتل والتخريب؛ وهم دعاة للسلم الاجتماعي وعدم الخروج على السلطة الشرعية والالتزام بتعهداتها الدولية؛ ولكنهم بمثل هذه الفتاوى يؤسسون من حيث لا يدرون ولا يريدون للدعوة للإرهاب؛ فالإرهاب ثمرة التطرف، ولن يتم القضاء عليه أو حتى تقليصه؛ بدون العلاج الجاد الحاسم الحازم لجذوره.