في الوقت الذي وصلت فيه بطالة الشباب إلى مستويات مرتفعة للغاية، تحاول الحكومة البحث عن سبل لمعالجة هذه الأزمة ولإيقاف قنبلة البطالة الزمنية، وليس هناك شك أن إمداد الشبان والشابات بالمهارات اللازمة لدخول سوق العمل هو السبيل الفعال لمكافحة بطالة 3.2 مليون عاطل مصري وقرابة 75 مليون عاطل على مستوى العالم، ويمكن للتعليم الفني والتدريب المهني أن يلعبا دورًا محوريًا بالغ الأهمية في إعداد الأفراد للنجاح في دخول سوق العمل، ونظرًا لفشل برامج التعليم الفني والمهني في الدول النامية في تلبية احتياجات سوق العمل، يصبح من الضروري استلهام الدروس المستفادة من التجربة الألمانية في مجال التعليم، وسوف أحلل في هذه المقالة أحدث جهود وزارة التعليم الألمانية في ربط التدريب المهني العملي داخل المصانع بالتعليم الفني النظري داخل المدارس. وبداية يجب أن أوضح أن هذا النظام المسمى بالنظام الثنائي يشير إلى شبكة من المؤسسات الخاصة وشبه الخاصة والحكومية التي تتعاون سويًا في متابعة التدريب داخل المصانع والشركات وفي عقد الامتحانات. وتتعاون الشركات والمصانع مع النقابات المهنية والغرف التجارية والصناعية والمؤسسات الحرفية في تقديم التدريب العملي مع مديريات التعليم التي تصيغ الإطار القانوني لتقديم التعليم للمتدربين، ويلزم القانون الألماني الأفراد الراغبين في العمل بالتدريب والدراسة لمدة 3 أعوام بعد انتهاء المرحلة الإعدادية، ويختار المتدربون البرنامج التعليمي التدريبي الذين يرغبون فيه من بين 350 برنامجًا يعد ل 350 مهنة، ويحدد كل برنامج تدريبي المواصفات العامة والخاصة لكل مهنة، وترتيب الحمل التدريبي، وطول مدة التدريب، ومتطلبات اجتياز الامتحانات في نهاية فترة التدريب، والآليات المؤسسية اللازمة لاكتساب المهارات ولمنح الشهادات. ولعل أبرز معالم النظام الثنائي للتدريب المهني والتعليم الفني في ألمانيا هو"كفايات تنفيذ الأفعال المهنية"، وتتكون كفايات تنفيذ الأفعال المهنية من الكفايات المهنية، والكفايات الإجرائية، والكفايات الشخصية. ويرتبط كل نوع من أنواع هذه الكفايات بنوع معين من أنواع المعارف والمهارات وأنماط السلوك الشخصية، وتهدف هذه الكفايات إلى تحمل الفرد لمسئولية أفعاله، ومن ثم، فإن النظام الثنائي في ألمانيا لا يركز فقط على الكفايات المهنية المرتبطة بوظيفة معينة، ولكنه يركز أيضًا على كيفية تنفيذ الإجراءات المرتبطة بوظيفة معينة بفعالية، وعلى الكفايات الشخصية ومهارات الاتصال، ومهارات البحث عن المعرفة والتعلم مدى الحياة. وثالث المعالم البارزة لنظام التدريب المهني والتعليم الفني هو تحمل الشركات والمصانع لجزء لا يستهان به من التكاليف المالية لتدريب التلاميذ، ورابع هذه المعالم هو الاستقرار الوظيفي، فحين يتسم التعليم المهني في بعض الدول بالاعتماد على عقود التوظيف قصيرة المدى؛ الأمر الذي يخلق شعورًا بعدم الاستقرار لدى المتدربين يتمتع المتدربون الألمان باستقرار وظيفي أكبر، ويعملون في مؤسسات ذات بنية تنظيمية تعتمد على مؤهلات أرقى، وترتكز على درجة أعلى من مشاركة العمال في الإدارة، ويمكن فيها للعمال أن ينتقلوا من وظيفة لأخرى داخل نفس المصنع أو الشركة، ومن ثم، تقوم علاقة العمل والتدريب المهني في ألمانيا على الثقة المتبادلة بين المتدرب أو العامل وبين المصنع. ويتسم نظام التدريب المهني والتعليم الفني الألماني بأنه نظام يعد أفرادًا على مستو عالٍ جدًا من المعارف والمهارات المهنية، وبأنه يكافئ الأفراد أصحاب المهارات الراقية بأجور مرتفعة، وبالإضافة إلى هذا، فإنه نظام يتمركز حول المؤهلات الدراسية ويتصف بالمعيارية الشديدة، ومن ثم، فإن المناهج الدراسية، وتوصيفات المهن المختلفة، والأهداف الدراسية، والمعايير المهنية، واللوائح الدراسية موحدة عبر جميع محافظات الدولة. وبالإضافة إلى كل ما سبق، يتميز النظام التعليمي الألماني بغرس قيم الانضباط الذاتي، والالتزام بالمواعيد، والأدب الجم، والنظام في المرحلتين الابتدائية والثانوية، وتساعد هذه القيم الأخلاقية على النجاح في العمل. وتؤكد المدرسة الألمانية على الإتقان الشديد للعمل، والقدرة على التكيف، واجتهاد المرء لكي يكون جديرًا بالثقة، والعمل الجماعي. وقد نجح النظام التعليمي الألماني في إكساب المتعلمين قيم التضامن والتماسك، وعلاقات العمل القائمة على الثقة، والإحساس العالي بالمسئولية، والمشاركة الفعالة في المجتمع، وأهمية الأمان الأسرى، واحترام التقاليد، وإقامة علاقات اجتماعية صحية مع الأقران والأسرة والمعلمين، وتساعد هذه القيم على تقديم الدعم الاجتماعي والوجداني والمعلوماتي للشباب، كما تمكنهم من التكيف بنجاح مع الظروف غير السعيدة وغير المتوقعة والأوضاع غير المستقرة. وما أحوج نظام التعليم الفني في مصر إلى إمداد أبنائنا الطلاب بالمعارف والمهارات التي يحتاجها سوق العمل، إن على واضعي السياسات التعليمية أن يبذلوا جهدًا حقيقيًا لتطوير المناهج الدراسية، إن إصلاح التعليم يتطلب تدريب المعلمين على إقامة علاقات استراتيجية ناجحة مع الصناعة، ولن يتأتى ذلك إلا بإصلاح برامج التنمية المهنية المقدمة لهم، وتدريبهم على مواكبة التطورات التعليمية والصناعية المحيطة بهم، وليس هذا فحسب، بل يجب تحديث برامج التعليم الفني، وجعلها أكثر مرونة، وأكثر استقلالية، وأكثر قدرة على التنافس مع المدارس الثانوية في الدول المتقدمة، ألم يأنِ الأوان لتطبيق ثقافة الجودة في مدارسنا الفنية ؟ ألم يأتِ الوقت لتحسين المعايير التعليمية في نظامنا التعليمي؟ ومتى تهتم مدارسنا بغرس القيم والأخلاق بصورة أكثر فاعلية بدلًا من اقتصارها على تدريس مجموعة من المعارف والمهارات التي عفا عليها الزمان؟ ومتى تركز مدارسنا على غرس قيم التماسك الاجتماعي، وإتقان العمل، والعمل التعاوني؟ ومتى يتم وضع حد أدنى من المعايير لا يمكن لطلاب المدرسة الثانوية التخرج دون الوصول إليه؟ ومتى يتم توحيد مؤسسات إعداد التلاميذ في التعليم الفني والتدريب المهني؟ هذا ما سوف تجيب عليه الأيام القادمة.