لم تكن مفاجأة لي استقالة الدكتور محمد فؤاد جاد الله المستشار القانوني للرئيس مرسي، ولم تكن مفاجأة لي أبدًا كل التفاصيل التي ذكرها كأسباب للاستقالة، من منظور شاهد عيان يومي في رئاسة الجمهورية على مدار تسعة أشهر، وهي تقريبًا تلخيص للمعاني والحقائق التي كتبتها في هذه الزاوية على مدار أكثر من شهر، وتلقيت بسببها الشتائم والاتهامات من المتعصبين، وأظن أن فؤاد جاد الله سيتلقى حصته من تلك الشتائم والاتهامات خلال الأيام القليلة المقبلة، وستبدأ ماكينة التشويه والشيطنة في رسم صورة جديدة له، كفاسد ومتآمر وشارب للشاي بالياسمين وممول من ضاحي خلفان والسعودية، وفي أحسن الأحوال سيقولون إنه كان طامعًا في منصب وزاري فلم ينله فغضب وقدم استقالته وأنه "خربها" في مؤسسة الرئاسة فهرب قبل الإقالة، أو أنه قابل السفير الفلاني أو الوزير العلاني من الدولة الفلانية فتغير من بعدها لأسباب غير مفهومة!، ماكينة الأكاذيب والتشويه لن تتوقف عند جاد الله، فكل من يتمرد على الإخوان ويخالفهم أو ينتقد استبدادهم وإقصائيتهم وأنانيتهم المفرطة في الحكم وعملهم من أجل التنظيم والجماعة وليس من أجل مصر وتعريضهم البلاد لخطر الفوضى والسقوط سيناله نصيبه من هذه الأكاذيب وحملات التشويه، وسوف يروّجون السؤال الأسطوري حول انقلابه: لماذا تغير الرجل مائة وثمانين درجة؟ فالمفترض أن محمد مرسي والإخوان هم المجرة الكونية الثابتة، الطاهرة المطهرة الكاملة المكملة التي لا تتغير أو تتلون ولا تخطئ ولا يعتريها الهوى أو حظوظ النفس، وإنما المشكلة دائمًا في الآخرين من حولها يتغيرون ويضعفون ويخطئون ويطمعون ويفسدون، أما أن يتساءل أو يفترض أحدهم أن التغير حدث في "المجرة الكونية" ذاتها، أن تحركهم انتهازية سياسية مثلا، حاشاهم، أن يعملوا وفق أجندة خاصة وليست للوطن كله، فهذا مستحيل عقلًا وشرعًا وسياسة، فهم ثوابت الأمة وعماد الإسلام وأمل البشرية، أحدهم أرسل لي رسالة على البريد الإلكتروني يقول فيها: اللهم إن يهزم عبدك محمد مرسي لا تقوم للإسلام قائمة في مصر!!، والحقيقة أن صناعة الفرعون أساسها دائمًا أن ينزه عن أن يكون من طينة البشر أمثالنا، لم أفاجأ بتغير أكثر مستشاري الرئيس التصاقًا به وقربه من المطبخ القانوني والسياسي، الرجل الذي رأى بعينه على مدار تسعة أشهر كيف تدار الدولة المصرية من رأسها، وكيف تتحرك مؤسسة الرئاسة، ثم خرج في النهاية يقول: لا أمل، فمصر تدار من مكتب الإرشاد وليس من رئاسة الجمهورية، والإخوان يتآمرون على القضاء ويخططون لتدميره أو احتوائه، والإخوان يتعمدون إقصاء كل القوى الوطنية لكي يهيمنوا على مفاتيح القرار ومقدرات الدولة رغم أن المرحلة الانتقالية الصعبة كانت تحتاج إلى شراكة وطنية، والرجل قال إن الرئيس يعتمد على أهل الثقة الجماعة وليس أهل الكفاءة بما يمثله ذلك من ضرر مباشر على المصلحة الوطنية، والرجل قال إن مرسي لا يدير حوارًا وطنيًا بالفعل وإنما تسالي لكسب الوقت، وتفاصيل كثيرة ذكرها في خطاب استقالته الخطير والحوار الذي سبقه. فؤاد جاد الله ليس أول من أيّد محمد مرسي ودعمه ووقف إلى جواره ثم أصيب بالإحباط الشديد مما رآه، كما أنه لن يكون الأخير، وكلنا كان ذلك الرجل يومًا ما، كلنا وضعنا آمالنا في الدكتور مرسي أن ينهض بمصر وأن يحقق مأمول الوطن والثورة ببناء دولة حديثة، تقوم على التداول السلمي للسلطة وبناء المؤسسات والشفافية واستقلال السلطات وسيادة القانون والشراكة الوطنية والكرامة للوطن والمواطن، فإذا بنا نجد أنفسنا "نخدم" على مشروع تنظيم سري خطير خارج هياكل الدولة يهدف إلى الهيمنة على الدولة وأجهزتها الأمنية والإدارية والقضائية وإعادة إنتاج الديكتاتورية على مراحل، والقبض على مفاصل الدولة والسيطرة على مفاتيح القرار فيها ويفعل أي شيء ويقدم أي تنازل في دين أو دنيا، من أجل تمكين الجماعة من السيطرة وتثبيت دعائمها في الحكم، لتكون الآمر الناهي، وكل الأمور رهن إرادتها، لتصبح فكرة الانتخاب والتعددية والديمقراطية ديكورًا محضًا يجري ترتيبها هندسيًا بالسيطرة الكاملة، واكتمال دائرة التحكم الأمني والقضائي والإداري، وتحدد النتيجة المطلوبة قبل الانتخابات بشهور، تمامًا كما كان يفعل من سبقوه، فوجئنا أننا أمام جماعة لا ترتب لتداول سلطة، وإنما تنشب أظفارها في دولاب الدولة باستعجال ولهفة وبطريقة من يخطط للبقاء ولن يغادر أبدًا، ولن ينزل من الكرسي، بل يرتب كل شيء من أجل قطع الطريق على فكرة تداول السلطة، وجدنا أننا أمام مسار ينتهي إلى إعادة إنتاج الفرعونية من جديد، بثياب زور منتسبة إلى الإسلام، فقررنا قطع الطريق على مسار الانقلاب، ومصارحة الشعب، متحملين ما ينالنا من أذى، فمصر ومصيرها ومستقبلها تستحق كل تضحية، واثقين أن الحقيقة ستتبدى مع الوقت، ولن يستطيعوا خداع كل الناس كل الوقت.