وددت أني لا أكتب هذا المقال تحت هذا العنوان, لأن كلام السادة الأئمة يكفي للتنبيه إلى معانيه ومغازيه, فلقد صنّفوا فيه تحت عنوان (واجب الوقت)، وهو ما يجب عمله في الظرف الذي نحياه والمكان الذي نعيش فيه, حيث تُرتب فيه الواجبات طبقًا للأهمية التي تحتاجها الأمة. ولكن الدافع الذي جعلني أكتب ذلك المقال هو نوع من التذكرة التي تنفع من يلتقط الفكرة ويقرأ ما بين السطور, لأن الذي لا يدرك فقه اللحظة أو لا يبادر إلى إعمال قواعدها تضيع منه فرصة تحقيق الأهداف. قال شاعر الحكمة : وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدر ويقول آخر في معرض الاستفادة من الموقف الراهن قبل أن تنقضي آثاره: إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن الخافقات لها سكون ولقد هبت رياح التغيير في مصر بثورة الخامس والعشرين من يناير ولكننا لم نلتفت إلى ما يجب عمله في هذه اللحظة ففات منا التشكيل الثوري الذي كان قادرًا على الإمساك بزمام الأمور وإدارة الدفة, والجميع قد أسلم لهم القيادة بكل يسر ورضا. ولا شك أن هذه الفرص تكررت في غياب فقه اللحظة عن أذهان أصحاب القرار فأغفلوا تطبيق مبادئها فضاعت الفرص وتعقدت الأمور وتحوّل أصحاب الثورة إلى ضحايا يبكون على أطلال مضت ويد واحدة انشطرت إلى عدة أيدي متصارعة ومتعدية على تاريخ سطّره الشهداء بدمائهم. لقد علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم- فقه اللحظة من خلال مواقفه التي تناسب كل وقت, فكان فقه الصبر في مكة, وفقه التعاون والتحالف في المدينة, وفقه العفو والصفح يوم الفتح الأكبر. وإذا كنا اليوم نقف على أعتاب مرحلة بناء لصرح شامخ فلابد وأن ندرك فيها الواجب المتحتم علينا في هذه اللحظة الحرجة, إذ لا يعقل أن تكون هناك يد تبني وآخرى تهدم من أبناء الوطن الواحد, ولا يمكن أن يكون هناك فريق سعيد بآلام فريق آخر من المواطنين, ولا يصح أن يكون رب السفينة آمرًا بلم الشراع وقت هبوب الرياح أو نشر القلاع بعد سكونها. هذا ولقد لاحظنا في خواتيم عهد المخلوع أنه كان مفتقدًا لفقه اللحظة, فكانت قراراته وتنازلاته تأتي بعد فوات الأوان, فلم تُقبل منه, ولو راجع المراقبون هذه المواقف لوجدوا أنه كان أمامه إمكانية استيعاب الموقف لو أنه أحسن تطبيق هذا الفقه, ولكن الله أعمى بصيرته كي تقع ما قدره له من عقوبة المهانة والعزل جزاءً وفاقًا لبغيه على شعبه وقهره لإرادة أمته .. إننا قد رأينا الحقبة الناصرية بعد هزيمتها في يونيو, وشاهدناها تستوعب فقه اللحظة الحرجة إذ سارع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى التنحي عن القيادة مع تحميل نفسه مسئولية الفشل كاملة, فخرج الشعب مؤيدًا لاستمراره في الحكم في مشهد شعبي خطير فتمكّن بعد ذلك من محاسبة المسئولين عن الفساد. وأيضًا شاهدنا الرئيس الراحل أنورالسادات كيف استوعب فقه اللحظة حين استقال معظم المسئولين ممن حوله, فبادر إلى قبول استقالتهم ثم حاسبهم بعد ذلك. إن التاريخ مليء بمثل هذه المواقف التي تفصح عن إدراك كبير للواقع وحسن استغلال الفرص بما يؤدي إلى تحقيق النجاحات الحاسمة في الأوقات العصيبة, أما غير الملتفتين إلى فقه اللحظة وغير المدركين لها فهم أشبه بأصحاب المتاجر الذين شب حريق في متاجرهم المتجاورة فتركوا النيران تلتهم بضاعتهم دون أن يتعاونوا على إخمادها, بل وانصرفوا ليحضروا حفلة عشاء أو يشاهدوا مبارة لكرة القدم!!. ونحن اليوم في مصر أحوج ما نكون إلى من يستوعب هذا النوع من الفقه ويحسن استعماله, بل ويهيئ المناخ كي تتحقق من خلال التطبيقات المختلفة كل ما يفيد ويرضي طموحات هذا الشعب ويلبي احتياجات ومطالب الثورة ويعالج الآثار التي خلفتها مرحلة الصراع، حيث كنا نتمنى ألا تكون بين القوى الوطنية في المجتمع لكونها تسببت في تأخيرنا كثيرًا عن مرحلة البناء والتنمية المجتمعية. إننا أيها السادة بحاجة إلى أن يُحب بعضنا بعضًا, ويعفو كل فصيل عن زلات الفصيل الآخر من أجل مصر التي عانت كثيرًا في مراحل سابقة، فالأمل مازال معقودًا على رجاحة عقول قادة الأمة وحكمائها أن لا يقنطوا من إيجاد السبيل الملائم لتسوية الخلافات ووضع لمسات المشروع الذي نلتف من حوله والغايات التي نصبوا إليها, ولاشك أننا قادرون على هذا إذا خلصت النوايا وإذا حالفنا توفيق الله تعالى . والله المستعان