فى مقال سابق لنا عنوناه ب" من يهن فى وطنه يهن خارجه " تعليقا على الزوبعة التى ثارت بمناسبة ما قيل عن اعتداءات وإهانات تعرض لها مصريون بمناسبة مباراة كروية ،واليوم نكتب من منطلق شبيه ، نؤكد من خلاله أن ما يثار اليوم حول الجدار العازل بين مصر وغزة ، إنما هو نتيجة طبيعية لجدار آخر استطاع النظام القائم فى مصر أن يبنيه عبر سنواته الماضية بينه وبين الشعب ... فمن اللمحات الذكية للغاية التى تبدت فى مقدمة ابن خلدون ، تنبيهه إلى أن الحاكم عندما تستديم سلطته ، ينشأ فى كل فترة من حكمه " راق " – وجمعها " راقات " – تفصل بين هذا الحاكم وبين الرعية ، وهذا " الراق " يتكون من موظفين ومستشارين ومكاتب إدارية وفنية وأمنية ، يسميهم ابن خلدون " حُجّاب " ، فيزداد الحاكم عزلة عن الناس ، بحيث لا يصله إلا ما يريده هؤلاء الحجاب ،وبالتالى لا يكون لأوجاع الناس أصداء تصل إلى مسمع الحاكم ، ولا لكتابات ذوى الضمير الحى ،والفكر الثاقب ، والعلم المتعمق ، والحرص على المصالح الحقيقية للوطن وللجماهير . بل ويسعى الحجاب إلى صناعة " شعب " – إذا صح هذا التعبير – يُظهرونه فى المناسبات التى يخرج فيها الحاكم إلى الناس ، ويكون أفراد هذا الشعب المزيف معروفين جيدا لدى الأمن ، ويحظون ببعض العطايا وصور التمييز ، وأحيانا " التصعيد " ، فيرى الحاكم أثناء مناسبات خروجه جماهير تصفق وتهتف وتسبح بحمد الحاكم ،وتعلن شكرها للمولى عز وجل أن أنعم عليها بمثل هذا الحاكم ، وهو عندما يرى كل هذا يسعد ويظن السراب ماءا فيزداد اقتناعا بحكمة من حوله فيعزز سلطتهم ، ويكسبها مشروعية ، بل وقداسة فى كثير من الأحيان ، مغموسة بقدر عال من الرعب من إغضابها ، ومن ثم السعى الحثيث إلى التقرب إليها واسترضائها ، فتشيع علامات النفاق والرياء ،وتزدحم الثقافة القائمة بألفاظ هى أشبه بالشيكات التى لا رصيد لها ، فتصبح ثقافة لفظية ، لا يكون لها أى دور فى التنوير والتقدم ، وإنما العكس ، تخدر وتغيب الكثرة الغالبة من الناس ، فيلتبس الحق بالباطل ،ويكتم كثيرون الحق وهم يعلمون !! ولأن النظام يقوم على " الفردية " و " التسلط "، ينتقل بالعدوى إلى مواقع متعددة ، فإذا بكل مسئول عن موقع ينهج النهج نفسه ، وإذا بالبلاد تزدحم بالفراعين الوسطى والصغرى ، حتى أدنى المستويات فى التنظيمات الاجتماعية المختلفة ،ولو سقنا مثالا لهذا النهج فى مؤسسة نخبرها ونعيشها ، مثل الجامعة ، فسوف تجد أن رئيس الجامعة يجئ بناء على تقارير أمنية تؤكد أنه " آمن " ، أى أنه لا يعادى النظام ،ويمتثل لما يعلن ويشاع من توجهات السلطة ، ولا يجئ باختيار عمداء الكليات أو عن طريق مجلس أمناء ،وتغيب المعايير الموضوعية من حيث العلم والقيم الأخلاقية والعلاقات الإنسانية الطيبة والتدين ، وإن كان هذا لا يعنى اختفاء مثل هذه الجوانب ، فقد تكون موجودة ، لكنها تأخذ تفسيرا يتسق مع هوى الحاكم ، خاصة وأن الجوانب الإنسانية تخضع لاختلافات الرؤى وزوايا النظر ،ومن ثم يمكن قهر الطلاب بحجة سد الأبواب أمام الفئات المثيرة للفوضى وعملاء الخارج ، ويمكن أن تتسع المساحة للتدخل الأمنى ، بحجة توفير الهدوء للأساتذة والطلاب كى يقوموا بواجباتهم التدريسية والبحثية على خير ما يرام ..وهكذا والشئ نفسه يمكن قوله ، بالنسبة لاختيار العمداء وسائر المستويات القيادية . ولأن كل مستوى يكون " مذعورا " من أن تهتز ثقة الأعلى به ، تجده يزرع هو بدوره الذعر فى قلوب من يليه ،وكأنه بذلك يُفرغ شحنات القهر التى تملأ جوانحه ولا يستطيع ولا يريد أن يصارح نفسه بها ، يسعد بأن يراها لدى من يرأسهم ..وهكذا هنا تجد " الجدار العازل " بين كل مستوى قيادى وبين المقودين .. لكن الأركان الأساسية فى النظام تشعر فى قرارة نفسها أن من المستحيل أن تكون مقبولة لدى جماهير الناس ، حيث إن مثل هذا النهج يولد بطبيعته سوءا فى الإدارة وظلما وتفشيا للفساد وسرقات وشُحا فى القوت ،وشيوعا لمظاهر جوع وفقر مدقع وترديا فى الخدمات ،وصورة من صور التعليم المؤسف الذى يُسَطّح ولا يُعَمق ،ويُضَيق ولا يوسع الآفاق ،وإعلاما يخدع ولا يصارح ، فما العمل ؟ صحيح أن السبل معروفة لتزييف إرادة الناس فى انتخابات توهم ولا تصدق ، إلا أن الخوف يظل فى الفلوب من أن تجئ لحظة يفيض الكيل فيها بالناس فتهب ثائرة تريد رفع الظلم ،وفتح آفاق الأمل فى السير نحو حياة كريمة لملايين المطحونين ، فيظل السؤال : فما العمل مرة أخرى ؟ هنا تجئ فكرتان : أولاهما ، التعاون والتضافر مع نظم مماثلة ، تعيش ظروفا مشابهة، وإن اختلفت الأشكال والسبل ، لكنها تتفق فى النهج الاستبدادى القائم على القهر والقمع ،واستدامة السلطة ،وثانيهما : الاعتماد على قوة خارجية ، تماما كما كان البعض فى الحوارى المصرية قديما يفعل بالاعتماد على " فتوة " يكفل الحماية ويوفر الرعاية ، فى نظير الامتثال لما يريد وتسييد مصالحه هو لا مصالح أهل الحارة ، فمن هو " فتوة العالم المعاصر " ؟ لسنا فى حاجة إلى بذل جهد للإجابة ، فها هى الولاياتالمتحدة تقف على رأس الدنيا المعاصرة بغير منافس ولا معارض ،ومن يعارض " يلقى آثاما "! ولأن دولة العدو الصهيونى هى امتداد مؤكد للامبريالية الغربية على وجه العموم ،والأمريكية على وجه الخصوص ، يصبح رضاها وغضبها هو مدعاة لرضا أمريكا وغضبها . فإذا ما نظرت فى نظرة كلية للمنطقة العربية ، فسوف تجد المشهد نفسه المستمر عبر العديد من العقود ، ألا وهو وجود قوتين : قوى بغى وقهر واستغلال تتمثل فى القوى الامبريالية ، وقوة تسعى إلى التحرير فتنهج نهج المقاومة والكفاح ، .. إنها القصة البشرية عبر التاريخ كله : حيث التناقض بين الخير والشر ، بين الشيطان والملائكة .. ولأن قوى البغى والاستعلال تجئ فى كثير من الأحيان من خارج ، يهمها أن يكون لها أعوان وتوكيلات تستعين بهم من أجل كسر شوكة قوى المقاومة والكفاح ، بوسائل شتى ، الشريف منها والخسيس ،والسعى إلى إشاعة اضطراب فى المعايير والمفاهيم لتصبح المقاومة سفها والاستشهاد انتحارا . ودون استطراد فى مواقع شتى ، نشير هنا إلى ما حدث ويحدث على الأرض الفلسطينية ، حيث كان الاتهام المستمر لقوى المقاومة بأنها لا تريد السلام ،وأن التفاوض يمكن أن يجئ بغير عنف ،وصدقت كبرى قوى المقاومة الفلسطينية هذا فكان ما كان مما بدأ بمفاوضات مدريد بعد حرب الخليج (1990) ، وما أسفرت عنه من مفاوضات سرية بين الفلسطينيين والإسرائليين أسفرت عما سمى باتفاق " أوسلو " سنة 1993 وتمر الأعوام فلا يرى الناس ثمارا حقيقية لهذا الاتفاق المشئوم ، فالأرض الفلسطينية تحولت إلى " كنتونات " ممزقة يمكن التحكم فى الدخول إليها والخروج كأن الفلسطينيين " فراخ " يسهل إدخالهم فى القفص ، ولا يمر شهر إلا وقطعة من الأرض الفلسطينية " تُقضم " عن طريق المستوطنات . ورأى فريق من الناس أن تجربة المفاوضات التى لا تستند إلى قوة المقاومة لم تؤد إلى شئ ، ولن تؤد ، فنهجوا نهج المقاومة .. هنا حدث اصطفاف مخجل ، فبدلا من الوقوف وراء قوى المقاومة ،وازدراء قوى الاستسلام ، إذا بالعكس هو الحادث ، لماذا ؟ هنا نعود إلى ما جاء فى الجزء الأول من المقال ، فقوى القهر والاستبداد فى الداخل رأت مصلحتها ألا تؤازر قوى المقاومة ، بل القوى المغايرة لها ، فكان من الضرورى أن تتخذ هذه الخطوة أو تلك لخنق قوى المقاومة ،والذرائع سهلة وجاهزة .. فيزعم أن المقاومة خرجت عن إطار الشرعية ، ونحن نسأل : من هم الشرعيون ؟ إذا كان من يسمى برئيس السلطة الفلسطينية قد انتهت ولايته منذ عام تقريبا ، بينما القوة الأخرى لم تنته بعد فترة انتخابها وفق إرادة الفلسطينيين ، فمن هو الشرعى ومن هو غير الشرعى ؟ من هنا يجئ الجدار العازل الذى تقيمه السلطة المصرية بيننا وبين مليون ونصف فلسطينى محاصرين منذ فترة طويلة ، يشيع بينهم الجوع والفقر والمرض والتمزق ،عقابا لهم على اختيار نهج المقاومة ، الذى يمكن أن يفتح عيون الناس على الحرية والتحرير ، فتسرى العدوى إلى شعوب عربية أخرى محاصرة فى الداخل من قبل نظم مستبدة ، تقيم بيناها وبين شعوبها " جُدُر " عازلة !! أما المبررات والتسويغات ، فجاهزة بكلام رنان ،وشعارات مزيفة ، يهب فريق " الكتَبَة " الحكوميون إلى الصراخ بها كجوقة واحدة ، عيناها معلقة بيد " المايسترو "، فيزعمون المحافظة على الأمن القومى ، الذى " مهَر " النظام فى التغافل عنه – وما يزال – فى مواقع ومواطن كثيرة تحتاج مقالا مستقلا ، مما يوجب الاتفاق أولا على مفهوم الأمن القومى ،وقبل هذا وبعده ، من هو العدو ومن هو الصديق أصلا ؟!