حتى الآن تبدي النتائج الختامية لانتخابات الإخوان صورة انتصار عقلية التنظيم السري على عقلية الانفتاح على المجتمع والتواصل مع قواه الحية بكل أطيافها ، وهذا يعني أن الدائرة عادت للانغلاق من جديد بدون أي أفق للتطور ، ثمانون عاما ونقطة البدء هي نقطة المنتهى ، والأدبيات تستنسخ نفسها ، والمشاعر والخواطر أيضا تستنسخ خطابها ، الصبر والتضحية والابتلاء والأمن ووحدة الصف ، ثمانون عاما ولا يمل الخطاب الإخواني من نمطيته المدهشة ، والتي أعاد الأستاذ محمد مهدي عاكف تكرارها أمس في خطاب تدشين مكتب الإرشاد الجديد المتهم في شرعيته ، نفس المفردات واللهجة ، وهو نسخة يمكنك أن تقرأها مصاحبة لأحداث وأحوال سياسية قبل ستين عاما ، وهي ذاتها يمكنك قراءاتها في أحداث وأحوال سياسية قبل أربعين عاما وقبل عشرين عام وقبل عشرة أعوام ، الدنيا كلها تتآمر على الإخوان ، والجميع يضمر لها الشر والعداء ، وكافة القوى والنظم أخطأت في حقها ، ولكنهم هم لم يتآمروا على أحد ولم يضمروا العداء لأحد ولم يخطئوا في حق أحد ، هل يمكن لعقل سياسي أو حتى ديني يدار بهذا المنطق وذلك الأفق الضيق أن يتطور أو أن يفيد واقعه ووطنه وأمته ، أشك في ذلك ، العقلية التي تدار بها جماعة الإخوان الآن كان من الممكن تفهمها مع تنظيمات صغيرة وهامشية ومحدودة التأثير والحضور ، ولكن أن يدار جسد سياسي وديني وشعبي كبير بمثل هذه العقلية الانعزالية الانطوائية التي يهيمن على خيالها السجون والمعتقلات والأمن والتخفي والريبة تجاه المجتمع وقواه وفعالياته وتصور أن كل ما حولها يتآمر عليها ويتربص بها ، فهذا خطير جدا ، وتدمير لطاقات العمل الإسلامي وأجياله في الهدر وما يشبه حركة بندول الساعة ، يوهمك أنه يتحرك ، لكنه يتراوح جيئة وذهابا في ثبات وانتظام ، يوهم أبناءه أنه يتحرك ويتفاعل وينجز ، ولكنه في حقيقة الأمر مجرد استنزاف للطاقات الكبيرة في مضيعة ، الهدف الأسمى فيها هو إثبات الوجود ، وأتصور أن التصريحات التي خرجت من التيار الإصلاحي في الجماعة مؤخرا وخاصة بعد الانتخابات الأخيرة والجدل المصاحب لها كانت واضحة في عمق الإحساس بهذه الأزمة ، الإخوان تمتلك كفاءات نادرة ، وشخصيات ممتلئة حماسة ووعيا وقدرة على العطاء والمشاركة بقوة وجسارة في الحياة العامة ، يتمناها أي حزب سياسي في مصر الآن ، ولكنها مكبلة بسلاسل قوية مشدودة إلى عقلية جامدة وغامضة ومتشككة ومخاصمة للانفتاح ، وترى في الانفتاح على المجتمع والتفاعل الحي معه خطرا على أبناء الجماعة وولائهم لها وارتباطهم بها ، وكان هذا التيار الجديد يأمل في أن يتمكن من تحييد هذه العقلية الجامدة أو تحجيم هيمنتها على الجماعة ، وكان هناك إدراك بإمكانية هذا الأمر مع اقتراب تولي محمد حبيب لمنصب المرشد العام ، ولعله لهذا السبب عجل التيار المتشنج بالانتخابات وأصر عليها الآن لقطع الطريق على هذا الاحتمال رغم أن مكتب الإرشاد باقي له ستة أشهر كاملة في مدته ، خاصة وأن التيار الإصلاحي الذي قاده حبيب كان قد تقدم بالفعل بأفكار ومشروعات لتصحيح الأوضاع ، وتعديل لوائح جامدة كانت وما زالت تتيح لتيار الجمود والانعزال أن يهيمن على قلوب وعقليات القطاع الأوسع "الطيب" من أعضاء الجماعة في الأقاليم بالتخويف من انهيار الجماعة ومن الفتنة ومن الصدع وما أشبه ذلك من التهويمات الدارجة في أدبيات النشاط السري ، فيأخذهم رهينة الخوف ، لا يعرف أحد الآن ما سوف تؤول إليه التوترات الأخيرة داخل الجماعة ، ولكن المؤكد أن الجماعة ستخسر في كل الأحوال إذا ثبت تيار الجمود والانعزال هيمنته على أعلى هرم الجماعة ، قد يربح ذلك التيار الجماعة في تلك الحال ، ولكن الجماعة ذاتها ستكون قد دخلت بإرادتها إلى نفق مظلم يستعصي على الحياة والتفاعل مع واقع مصر الجديد والمستقبلي . [email protected]