الحرية أغلى ما تملك البشرية جمعاء، لأجلها جرت معارك ضخمة ونشبت حروب عدة. من أبرزها تلك الحروب التي خاضتها إفريقيا السمراء، وأميركا اللاتينية، وأوروبا الشرقية. حيث كانت الحرية ولا زالت السبيل الأوحد لاسترداد الحقوق، وكسر الحواجز، والانعتاق من القيود. تعلمنا من دروس التاريخ أن الحرية لا تمنح ولا توهب، لكنها حق أصيل لكل إنسان، يبذل في سبيلها كل ما في وسعه، ومصر دفعت أثمانا باهظة من الأرواح والممتلكات وقدمت التضحيات على كافة المستويات لصون كرامة الإنسان المصري وتعزيز حريته في حروب طويلة لا يتسع المقام لسردها الآن. ما تشهده مصر في أعقاب ثورة مجيدة، هو ردة للخلف، وانتكاسة للوراء، وسير في عكس الاتجاه. ويبدو أن الحرية التي كنا ننشدها سرا وعلانية، صارت عبئا ثقيلا على كل الناس، وباتت مبعثا للخوف والقلق، بل لا أبالغ إن قلت أن الحرية زادت من القيود وفرضت حصارا خانقا على كل المصريين. في ظل مجتمع تتجاذبه الانقسامات، وتمزقه حالات الاستقطاب الحاد، وفي غياب تفعيل القانون، تعاني البلاد من انفلات أمني وأخلاقي وإعلامي. لا تزال الداخلية تتقاعس عن القيام بدورها في حماية الأرواح والممتلكات، وكأنها تعاقب الشعب على خروجه عليها يوما ما، بل وصل الحد لاتهامها بالتآمر على الرئيس في أكثر من واقعة. صاحب غياب الأجهزة الأمنية وإهمالها في أداء واجبها، انتشار جيوش البلطجية وقطاع الطرق والجماعات الإرهابية ( جماعات البلاك بلوك )، ومن عجب أننا لأول مرة نشهد أن العمليات الإرهابية في مصر لم تعد حكرا على الجماعات الإسلامية المتطرفة فقط. أخطر أنواع الإنفلات عامة، ذلك الإنفلات الإعلامي الناتج عن مناخ الحرية الذي أعقب ثورة يناير. فالإعلام منوط به نقل الأحداث وبث الوقائع كما هي دون تزيين أو تزييف، دون زيادة أو نقصان، ويتوقف حياد الإعلامي ونزاهته على مدى الموضوعية في النقل، والمصداقية في بث الأخبار، والشفافية في الطرح. سأعرض هنا لقضيتين بارزتين، نحلل في ضوئهما كيف كان التناول الإعلامي لكل منهما، و النتائج المترتبة على هذا الأداء الإعلامي ومدى إساءة الإعلام في غالبيته استخدام هذا الجو المفعم بالحرية الكاملة. القضية الأولى تلك المعروفة إعلاميا بقضية سحل المواطن حمادة صابر. حيث لا يخفى على أحد منا مدى الاهتمام الإعلامي بتلك الواقعة سواء في برامج التوك شو أو الصحف المكتوبة والمقروءة أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي، فقد أفردت القنوات التليفزيونية مثلا قرابة أسبوع كامل تعرض فيه لمشاهد السحل، ومارست ابتزازا وضغوطا لا مثيل لها على السلطة التنفيذية بداية من رئيس الدولة ووصولا لوزير الداخلية الذي طالبته بتقديم استقالته جراء الانتهاكات التي قام بها بعض أفراد الشرطة. القضية الثانية تلك التي جرت وقائعها يوم الجمعة الفائت فيما يعرف بموقعة المقطم. لاحظنا جميعا كيف أن بعض هذه القنوات الفضائية، التي كانت على أهبة الاستعداد لالتقاط أي صورة أو مشهد في واقعة الاتحادية من شأنه إدانة الرئيس أو وزير داخليته، تنصرف لإذاعة أفلام ومسلسلات دون مبالاة أو اكتراث لما يتعرض له مواطنون مصريون من سحل وحرق وقتل في منظر عنيف ومفزع لكل المصريين. بل وصل الحد بأحد الإعلاميين إلى رفضه استنكار البعض عليه لهذا السلوك الإعلامي بدعوى الحرية في بث ما يروق لهم. هو الإعلامي ذاته الذي تأفف من عرض الفيديوهات التي يحرق فيها مواطنون مصريون بالرغم من أنه تناول قضية سحل حمادة ومقتل طفل البطاطا على مدار حلقات متواصلة. هناك فارق كبير إذن بين أعمال عنف ترتكبها أجهزة الأمن ضد المواطنين، في معظمها حالات فردية ويمكن محاسبة مرتكبيها... وعنف منظم، لدرجة يمكن القول معها أنه صار عقيدة، يرتكبه مصريون ضد مصريين أخرين، في وسط جو ملغوم ومشحون بالتخوين والتكفير وغياب الثقة، و يتم في ظل غطاء سياسي وصمت إعلامي. هنا يجب التوقف والتأمل طويلا، لنعرف كيف أن الحرية يجري تطويعها لحسابات خاصة وضيقة، بعيدا عن مصلحة الوطن العليا، في الوقت الذي يجب فيه إدانة العنف والتطرف بكل أشكاله وأيا ما كانت مصادره. الإعلام ينتقي الحوادث ويختار المواقف ليسلط عليها ضوء أكبر ويعمل على توظيفها لصالح فئة بعينها، بينما يحتجب عن قضايا مماثلة أو تزيد في خطورتها طالما أن تناولها يصب في مصلحة القطب الآخر. أتذكر في هذا السياق موقف رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون في كلمته الشهيرة حين تعرضت بريطانيا لبعض أعمال العنف والتخريب ( لا أحد يحدثني عن حقوق الإنسان طالما تعلق الأمر بأمن بريطانيا ) . حتى أعتى الديمقراطيات في العالم لا تتسامح في أي شيء من شأنه تهديد أمن الوطن وسلامة المواطن. فالولايات المتحدة الأميركية، قبلة الحريات ومعقل الديمقراطيات، تجوب طائراتها بدون طيار سماوات اليمن والصومال ومالي وباكستان والعراق وأفغانستان، ولا تتورع عن قتل واستهداف أي شخص تتشكك في أنه يمثل خطورة عليها. الإعلام الذي يبارك قتل المصريين وسحلهم وحرقهم بصمته المريب، لأن ذلك يخدم أجندة بعينها، هو إعلام بعيد كل البعد عن معايير المهنية والحياد والنزاهة، إعلام يستغل مناخ الحرية والديمقراطية شر استغلال للدرجة التي تهدد الوطن بكامله. هذا الإعلام يستحق الوقوف بوجهه، و يستاهل منا جميعا مراجعته والاعتراض عليه بكل الطرق السلمية. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]