أخطأ الأزهر في صيغة قرار سحب كتاب الدكتور عمارة الذي أثار غضبا في الأوساط القبطية والكنسية المصرية. لا خلاف على احترام أديان وعقائد الآخرين، ذلك من باب الاحترام فقط، لكن خلطه بالايمان بها، سقطة كبيرة وقعت فيها هذه المؤسسة الدينية الاسلامية الكبرى، فبدا ذلك لتلاميذها والمتطلعين لعلمها في العالم الإسلامي إيمانا بالعقائد المسيحية الحالية، ما يعني أنها اعتنقتها أو على أقل تقدير لا تفرق بينها وبين الاسلام عقائديا. بالطبع لا يتوقع أحد ذلك من الأزهر الذي يضم علماء راسخين في الفقه والاجتهاد، فمنهم ومن علماء الدين الإسلامي الآخرين يستمد الناس الفتوى وحلول المسائل الحياتية المستجدة. القراءة المتأنية للبيان الأزهري – كما أوردت نصه المصريون الأربعاء - تقف حائرة أمام الصيغة التالية "الأزهر الشريف يسره أن يستجيب لرغبة الأخوة المسيحيين وأن يعلن احترامه الكامل وإيمانه الشديد بالعقيدة المسيحية والمسيحيين داخل مصر وخارجها"! من الوهلة الأولى لهذه القراءة نستنتج أن تغييرا خطيرا قد حدث في الموقف الديني للأزهر، فما دام يؤمن بشدة بالعقيدة المسيحية والمسيحيين داخل مصر وخارجها، فلا فرق إذاً في منظوره الفقهي بين أن تكون مسيحيا أو مسلما، ولا يؤثر أن يتحول المسلم إلى المسيحية. وحتى لا يساء الفهم، فأنا هنا لا اتطرق إلى حقوق المواطنة، هذا شأن مؤسسات الدولة المدنية، لكني أتحدث عن رأس المؤسسة الدينية الإسلامية، فليس دورها أن تهدر القواعد الراسخة للدين استجابة لمجاملات أو توجهات سياسية، هذه مصيبة عظيمة، والمصيبة أعظم لو كان أحمد عز أو من في مقامه أو أقل منه في لجنة السياسات هو من أملى البيان! خلط وخطأ لا تقع فيه الكنيسة القبطية بأي حال. فقد حاورت يوما ماكسيموس الذي يرأس مجمعا مقدسا بحي المقطم شرق القاهرة ونصب نفسه بطريركا للأقباط الأرثوذكس موازيا للبابا شنودة في كاتدرائية العباسية، فأخبرني بأنه اتخذ قرارا تاريخيا غير مسبوق بالدعاء للمسلمين في القداس الكنسي وهو أقدس مراحل العبادة عندهم وجاء النص الذي أضافه كالتالي "وجيراننا ومواطنينا وكل جموع المسلمين". وقال "أهدف من ذلك إلى رد الاعتبار للمسلمين، ليس فقط في الصلاة بحد ذاتها كعبادة إلى الله، ولكن أقصد أن مسلمين كثيرين من الأصدقاء في أيام الدراسة وما إلى ذلك كانوا يقولون لي: نحن نعترف بالمسيحية، والمسيحية لا تعترف بنا، وكنت أشعر بنبرة المرارة والجرح". لكنه طبعا – ماكسيموس – لن يتجاوز ذلك إلى الوقوع فيما سقط فيه الأزهر أخيرا بشأن فكرة الاعتقاد أو الإيمان، فقال ردا على سؤال لي "الاعتراف المعتقدي بين أتباع الديانات والطوائف فكرة وهمية، لأن الاعتراف المعتقدي معناه الغاء جميع الطوائف والابقاء على طائفة واحدة، وكذلك الغاء جميع الديانات والابقاء على ديانة واحدة". فهل ما جاء في البيان الأزهري حقق بالفعل ما تجنبه ماكسيموس؟!.. هذه حقيقة لا يمكن الالتفاف عليها أو تفسيرها، فماذا يعني تصريحه بإيمانه الشديد بالعقيدة المسيحية غير ذلك؟! كان يمكن لبيان الأزهر القول إنه يؤمن إيمانا شديدا بالثقافة المسيحية، وهي نفس الاجابة التي خرجت من ماكسيموس في نفس الحوار حول الفرق بين الايمان العقدي بالاسلام والدعاء للمسلمين في القداس فقال "أحببت تخطي هذه العقبة. إنه يعني مائة في المائة اعتراف الكنيسة الأرثوذكسية التي أرأسها ثقافيا بالمسلمين، بل ليس فقط اعترافا ثقافيا وعمليا ومجتمعيا، وإنما هو نوع من رد الاعتبار لما مضى من التاريخ". ومرة أخرى سألته عما إذا كان ذلك يتناقض مع الديانة المسيحية التي لا تعترف بالاسلام فأجاب "يتناقض إذا كان إعترافا معتقديا، لكن هذا الاعتراف بين الديانات وحتى بين الطوائف كالسنة والشيعة أو الأرثوكس والبروتستانت، معناه الغاء جميع الديانات والطوائف والابقاء على ديانة واحدة أو طائفة واحدة، وهذا وهم من الخيال". بناء على ذلك نكرر السؤال موجها للأزهر بصيغة أخرى: هل الاعتراف المعتقدي الذي أعلنه الأزهر بالعقيدة المسيحية معناه أنه تحول عن دينه واعتنق تلك العقيدة.. أم ماذا؟! حتى عندما تحدث ماكسيموس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجنب أن يقول إنه رسول الله، فوصفه بأنه "رسول الاسلام". جاء ذلك عندما حكى لي قصة جلوسه بجانب ثلاثة دعاة مسلمين نيجيريين في طائرة أقلتهم إلى بيروت، فقد سأله أحدهم.. هل تحب محمدا؟.. وعقب البابا ماكسيموس: شعرت بمواجهة قوية مع النفس لأنني لم استطع أن أجيبه بنعم أحب محمدا، فقد رأيت داخل نفسي ميراث الطائفية موجودا دون أن أدري، ولم استطع أن أجيبه بلا، لأن ذلك ليس من الأدب، وهو ما جعلني أخجل من نفسي. الآن استطيع أن أقول بجرأة وشجاعة امامكم كما قلتها في كنيستي "نعم أنا أحب محمدا". القراءة المتأنية هنا أيضا تبين أن الرجل لم يخالف معتقده المسيحي نحو المسلمين في كلمة أو حرف. كان شديد الحرص ومؤكدا في كل مرة أن الاعتراف المعتقدي بالآخر وهم، ومع ذلك غضبت منه القيادات الكنيسة والطوائف المسيحية وأقباط المهجر بشدة لمجرد حديثه عن فقرة الصلاة للمسلمين في القداس أو حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، واتهموه باثارة الفتنة الطائفية. قال القمص صليب متى ساويرس وكيل المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس عندما سألته عن سبب الغضب العارم رغم أن الرجل لم يخرج منه أي اعتراف بالاسلام: تصريحاته خرافة. ماكس ميشيل (ماكسيموس) ليس بطريركا للأقباط الأرثوذكس ولم ينصبه أحد أسقفا أو يعطيه أي رتبة حتى يقوم بهذه الاضافات، فالدعاء الذي يتم في القداس هو دعاء الآباء والرسل منذ 2000 عام ولا يستطيع أحد تغييره أو وضع أية إضافات عليه. ماكس يريد الشهرة. الذي ينقص فقط أن يعلن إسلامه". هكذا اتهموه.. مع العلم بأن ماكسيموس أو البابا شنودة، لكل منهما كرئيس للأساقفة، صلاحيات الاضافة إلى القداس حسب استحسانه، خصوصا في الفقرة التي يصلون فيها من أجل فئات متعددة تبدأ بالصلاة من أجل رئيس الأساقفة نفسه ومن أجل القساوسة والطبيعة والوطن. لا مجال هنا لكي نلوم الغضب الكنسي على ماكسيموس فهذا هو معتقدهم الذي يرفضون المجاملة فيه.. اللوم كل اللوم يقع على الأزهر الذي قال كلاما عجيبا وغريبا يمكن تفسيره بأنه خروج عن إيمانه بالاسلام وإخلال بمقتضيات هذا الإيمان. نريد شرحا عاجلا منه لتطمئن قلوبنا، فربما أسأنا الفهم.