هل أفلت الزِّمام من أيْدي النظام الإسلامي الإيراني؟ السؤال يبدو كبيراً، نظراً إلى أن السيطرة التامّة لهذا النظام على الدولة والمجتمع (أو نِصف هذا المجتمع الآن بعد انتخابات 12 يونيو الماضي)، كانت كبيرة طيلة السنوات الثلاثين المُنصرمة من عُمره. بيد أن السؤال مع ذلك، بدأ يُصبح مُلِحّا وواجب الوجود بفعل تطورين إثنين: الأول، أن كل توقّعات مرشد الثورة وباقي هيئة أركان قيادته عن كون المعارضة الشعبية التي إندلعت غَداة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في يونيو الماضي، ستكون مجرّد فقّاعة غضب سُرعان ما سيَطويها مُرور الزمن، تبدّدت هَباءً منثورا، لا بل حدَث العكس: المعارضة الشعبية أثبَتت أنها سيْل جارف ومُتواصل، وليس فقّاعة عابِرة وأنها تتجاوز في حِراكها و"ثوريتها"، حتى قادتها "الرسميين"، من حسين موسوي ومحمد خاتمي إلى مهدي كرّوبي. والثاني، وهو الأهم، أن هدف المعارضين لم يعُد كما كان قبل ستّة أشهر، أي دحْرجة رأس الرئيس أحمدي نجاد ووضع رأس موسوي مكانه، بل بات الهدف رأس آية الله خامنئي نفسه، ليس فقط كمُرشد للثورة، بل حتى أيضاً كولي فقيه يجب أن يَأمُر فيُطاع مثلما ينص على ذلك الدستور. شعار "الله أكبر، الموت للديكتاتور" كان بعد يونيو خصِّيصة لأحمدي نجاد. الآن أصبح خصيصة لخامنئي. وثمّة تطوّر آخر قد يسلّط الضوء على بعض الجوانب الخطِرة في الأزمة الإيرانية الراهنة: الغضبة العنيفة، التي أبداها خامنئي ونجاد ضدّ تمزيق حفْنة من صُوَر الخُميني، والتي تشِي بأن أركان النظام الذين اهتزّت شرعِيتهم بعُنف بعد الانتخابات الرئاسية، التي اتّهِموا على نِطاق واسع بأنهم زوّروا بعض نتائجها، يبحثون عن أي تبرير مهْما ضعُفت حجّته، لتصوير المعارضة الشعبية لهُم على أنها حركة لقلْب النظام الإسلامي برمّته. الأمر هنا، أشبه بإطلاق صاروخ عابِر للقارّات لقتْل ذُبابة، لأن تمزيق صورتيْن أو ثلاثة لمؤسس الجمهرية الإسلامية من طرف أشخاص مجهولِي الهوِية، يُفترض أن لا تكون قضية وجودية تفرِض تدخّل خامنئي وتوجيه اتِّهامات خطيرة إلى قادة المعارضة، كما فعل يوم الأحد 13 ديسمبر. مسألة الصوَر وردود الفعل عليها، كشفت مدى القلق الذي يشعُر به أركان النظام من احتمال تحوّل حركة المعارضة الشعبية الرّاهنة إلى كُرة ثلج مُتدحْرجة، قد تجرُف في طريقها في نهاية المطاف، كل قادة ورُموز السلطة الإيرانية الحالية. مُفترق خطِر إيران إذن، تبدو على مُفترق طُرق خطِر بالفعل، وهذا ما يدُلّ عليه تمدُّد المُظاهرات من جامعة طهران وبقية الجامعات في مُدن أخرى إلى الأحياء الشعبية في العديد من المناطق، واستمرار سقوط عشرات القتلى في المُجابهات بين قوات الباسيج (الميليشيات الإسلامية) والشرطة وبين الشبّان المتظاهرين. وإذا ما كان البعض يعتقِد بأن الوضْع ليس خطراً لمجرد أن الطلاب هُم رأس الحربة في المُجابهات الرّاهنة، فيجب أن نتذكّر هنا أمرين: الأول، أن الطلاّب والشبّان يُشكِّلون الغالِبية الساحقة من الشعب الإيراني، الذي يُناهز عدده السبعين مليون نسمة. والثاني، أن هؤلاء الطلاّب أنفسهم كانوا الشّرارة الحقيقية التي اندلع منها لاحقاً لهيب الثورة الخُمينية نفسها عام 1979. إذا أضفْنا إلى ذلك الحقيقة بأن الطلاب هُم جزء من حركة المعارضة الشعبية، التي باتت تضُم مُعظم قطاعات الطّبقة الوسطى الإيرانية (من مُعلِّمين وموظفين رسميين وفنّانين ومثقّفين)، فقد نصِل إلى الاستنتاج بأن ما يحدث هو في الواقع تحرّك الطَّبقة الوُسطى المدنية والمدينية، للمُطالبة بتغيير أو على الأقل تطوير النظام: من نظام "سُلطوي ديمقراطي" إلى نظام "ديمقراطي - ديمقراطي"، ربّما في إطار ولاية فقِيه دستورية تملِك ولا تحكُم، كما الأمر في المَلكِيات الدستورية. هذه الحقيقة هي، على ما يبدو، ما يجعل الانتفاضة الشعبية الخضراء الرّاهنة، بما هي شبكات اجتماعية جديدة تتواصل فيما بينها عبْر الأثير الافتراضي (ثُلث الشعب الإيراني لهُم مداخِل على الإنترنت)، مستقلّة حتى عن قادتها موسوي وخاتمي وكرّوبي، وهذا يعني أنه في حال قِيام النظام باعتِقال هؤلاء القادة، سيكون في وُسع المعارضة بكلّ بساطة، استيلاد قادة جُدد مكانهم قد يكونون أكثر راديكالية في طروحاتهم، وهذا ما شجّع بعض المحلِّلين إلى القول بأن "الكاريزما" (الجاذبية الجماهيرية)، انتقلت في إيران من القادة إلى الناس (كما حدث في أمريكا اللاّتينية)، فبات الشارع، لا الزعيم أو الزعماء، هو الكاريزمي. قرار الحَرَس لكن، ما فُرص تحوّل إيران من جمهورية سلطوية - ديمقراطية إلى جمهورية ديموقراطية حقيقية؟ ألا يُحتَمل أن يحدُث العكس تماماً، فتنتقل البلاد من السُّلطوية إلى التوتاليتارية؟ هذا الاحتمال سيَعتمِد في الدرجة الأولى على القرار الذي سيتّخذه الحرس الثوري الإيراني، إذ يُقال الآن أن هذا الحرس هو الذي يُسيْطر على وَلِي الفقيه لا العكْس، كما أنه يُمسِك بإحكام بمقاليد السلطة الأمنية - العسكرية في البلاد. حتى اللّحظة، يبدو أن القرارات المتطرِّفة الخاصة بقمْع المعارضة الخضراء ورفْض الاحتِكام إلى صناديق الاقتراع الديمقراطية بدل السَّيف، تنْبع هذه الأيام من فَوْهة بُندقية الحرس. ربّما كان هذا صحيحا، لكن الصحيح أيضاً أن ضبّاط وعناصِر الحرس، ليسوا طبقة مستقلّة عن المُجتمع (كما بالنسبة إلى "الطبقات الأمنية"، مثلاً في مصر وتونس وسوريا وغيرها)، بل هُم جزء من النّسيج الاجتماعي ويتأثَّرون به سلْباً أو إيجاباً، وهذا ما يدفعنا إلى وقْفة سريعة أمام تركيبته. الحرس الثوري لعِب في السنوات الأخيرة دورا شديدَ الأهمِية في الحِفاظ على النظام الداخلي، لاسيما بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، كما قام أيضا بتحسين قُدرات إيران الانتِقامية في حالة تعرّضها إلى غزْو أَو ضرَبات جوية تستهدِف منشآتها النووية أَو مقرّاتها الأمنية (ويخدم هذا الغَرض أيضًا قرار آية الله خامنئي بتحويل منظومة القيادة والسيْطرة الخاصة بالحرس الثوري نحو درجة أكبر من اللامركزية)، لكن مع ذلك، لا يجب النظر إلى الحرس على أنه كِيان جامِد. بالطبع، كِبار قيادات الحرس يختارُهم المرشِد الأعلى للثورة، وهم يدينون بالوَلاء له، إلا أن الحرس كِيان كبير يضمّ ما يقرب من 120 ألف رجل وكثير من ضبّاطه دعموا الرئيس محمد خاتمي، ثم إن هناك تصدّعات حقيقية داخله. فمحسن رضائي، أحد منافسي الرئيس أحمدي نجاد في انتخابات الثاني عشر من يونيو الماضي، كان مسؤولاً كبيرا سابقا في الحرس الثوري. لذا، لا يجب النّظر إلى الحرس الثوري الإيراني على أنه 120 ألفاً متعلّقين أو مُغرمين بأحمدي نجاد. ومع ذلك، فالخطر قائم بأن تُسيطر الفئات المتصلِّبة أو المتطرِّفة في الحرس على الأمور، لتحدث انقلاباً حقيقياً في مسار الثورة الإيرانية، وهذا أمر غير مستبعَد. فكما هو معروف، الثورة كالدولة، لها زمان ورجال. بعض الثورات، كالفرنسية في عام 1789 والبلشفية في عام 1917، ينتهي زمانها مع رحيل رجالها المثاليِّين، فتنحدِر إلى الرّعب الثوري والاستبداد، ويُسيطر "الروبيسبياريون" و"الستالينيون" على روحِها وجسدها. والبعض الآخر، كالثورة الناصرية ومُعظم ثورات العالم الثالث الحديثة، تنتهي إلى الفشل أو التآكل بفِعل الضربات الخارجية أو التعثّر التنموي أو الأخطاء في ممارسة الحكم. ثم هناك نمط ثالث، كالثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر والألمانية والإيطالية في القرن التاسع عشر، تنجَح بالتّحديد، لأنها تنتهي بالتحوّل إلى دولة – أمّة. أين سيكون موقِع الثورة الإيرانية في هذا التموضع التاريخي للثورات؟ حتى قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كان الأمل كبيراً حقَاً بأن يسُود السيناريو الثالث وأن تتحوّل الثورة الخُمينية بالتّدريج إلى دولة حديثة، تكون ثاني رابع دولة - أمّة في العالم الإسلامي (بعد تركيا وإندونيسيا وماليزيا) يُعقد فيها القِران السعيد بين الإسلام والديمقراطية وبين الأصالة والحداثة. بيْد أن هذه الصورة – الأمل - بدأت تشوبها شروخ خطيرة بعد الانتخابات. فالعُنف حلّ مكان الحِوار والانقسام بات بديل الإجماع والشكوك اجتاحت الثِّقة المتبادَلة الضرورية في مرحلة التحوّل الدّقيقة من الثورة إلى الدولة. بالطبع، لم تصِل الأمور بعدُ إلى مرحلة اللاّعودة، خاصة وأن دوافِع المرشد الأعلى من وراء دعمِه لإعادة انتخاب أحمدي نجاد رئيساً، كانت خارجية في الدّرجة الأولى (تصليب الموقِف التفاوُضي مع الغرب) لا داخلية. لكن التطوّرات الأخيرة تُوحي بأن ما كان خارجياً، بدأ يُصبح داخلياً بالكامل، وهذا يجب أن تقرع أجراس الإنذار من احتِمال انشِطار الأمّة الإيرانية في شكل نهائي إلى أمّتيْن مُتناحِرتيْن. فالرئيس نجاد هدّد، ولا يزال على ما يُقال، ب "قطع رُؤوس زعماء المُعارضة"، وقائد في الحرس الثوري يُطالب بمحاكمة خاتمي وموسوي وكرّوبي بتُهمة "التآمر مع قِوى خارجية لتغيير النظام"، هذا في حين كانت مئات من كوادِر المعارضة يتعرّضون إلى موجَة إثْر أخرى من المُحاكمات "الثورية" وسط أنباء عن عمليات اغتِصاب وتعذيب في السّجون بحقِّهم. وإذا ما أضفنا إلى كلّ ذلك حوادث إطلاق النار على المتظاهِرين ومواصلة أحاديث قادة الحرس الثوري عن وجود "مُؤامرة كُبرى ضدّ الثورة الإسلامية"، فإننا قد نتوصّل إلى الاستِنتاج بأن بعض قادة الحرس بدؤوا يُغادرون بالفِعل السِّيناريو الثالث لمصير الثورة، ويتحرّكون بشكل حَثيث نحو السِّيناريو الأول وربّما حتى الثاني، وهذا سيضع الحرس الثوري في مواجهة مباشِرة مع "الشارع الكاريزمي" الإيراني. فلمن سيُعقد لِواء النّصر؟ سؤال هامّ، لكن هناك ما هو أهمّ منه: هل ستؤدّي هذه المُجابهات إلى حرب أهلية في ظلِّ توتاليتارية إسلامية جديدة أم إلى اختِمار ونُضج ديمقراطيين، ولو بعد حرب أهلية؟ فلننتظِر لنَرى، لكن انتِظارنا هذا لن يكون طويلاً على الأرجُح! المصدر: سويس أنفو