من التراث السياسي للحركة الإسلامية المعاصرة، انتقادها الشديد للحكومات والأنظمة السياسية في البلاد العربية والإسلامية، واتهامها إياها بالأنانية وتغليب المصالح الخاصة والضيقة وعدم الالتفات إلى مصالح الناس الحقيقية ومصالح المجتمع العامة، وكذلك استهانتها بأرواح الناس وعدم حفظها لدمائهم. وهذه انتقادات واتهامات حقيقية وغير مبالغ فيها، حيث ارتكبت هذه الحكومات والأنظمة السياسية جرائم كثيرة في حق شعوبها تستحق عليها المحاكمة وأشد أنواع العقوبات. ولكن بعد أن يفتح الله للإسلاميين في بعض البلاد أبواب الخير وسبل حكم وقيادة هذه البلاد، نجد أن ما تمنيناه على غيرنا لم نستطع نحن تحقيقه، وما حدث هو السيناريو الأسوأ الذي لا يرضي أحدًا. فبدلاً من تقديم المصلحة العامة للمسلمين على المصلحة الحزبية أو الفصائلية الضيقة، وجدنا التدابر والتقاتل والحزبية بين الإسلاميين وبعضهم هي الأسس الحاكمة، ورأينا الاستخفاف بالمبادرات الإسلامية من أجل المصالحة ولمِّ الشمل والعمل تحت راية إسلامية واحدة هو العنوان الأبرز للتعامل بين إخوة الوطن والدين ورفقاء السلاح والجهاد بالأمس القريب. في هذه السطور نلوم أنفسنا جميعًا ونعترف أننا - نحن الإسلاميين – فشلنا في الصومال في أن ندير أمورنا وأن نوحد كلمتنا وأن نتغلب على المشكلات التي تواجهنا. وإذا كان الإسلاميون الصوماليون قد عانوْا معاناة شديدة على يد ديكتاتورية "سياد بري" وقمعه مثل غيره من المستبدين العرب والمسلمين لكل مظاهر العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية، فقد جاءتهم الفرصة للوحدة والعمل المشترك من خلال تجربة "المحاكم الإسلامية" التي أوجدت واقعًا معقولاً على الأرض الصومالية، وحققت الأمن للمواطن العادي، وخلصت الناس من "أمراء الحرب"، وأقامت بينهم العدل، مما أثار بعض الأطراف الخارجية فتجمعت للقضاء على هذا التقدم الذي حدث، فكان العدوان والاحتلال الإثيوبي هو عنوان مشروع الكارهين لوحدة الصومال ولهويته الإسلامية. لكن الإسلاميين الصوماليين فشلوا وتنازعوا واختلفوا، وتأسس على هذا الخلاف أن أصبح حال الصومال كما يعلمه الجميع، فالحرب دائرة بين طرف إسلامي يحتوي على فصائل إسلامية، وطرف آخر إسلامي يحتوي على فصائل إسلامية أخرى، وكان المفترض أن يحذر هؤلاء من التورط في هذا الحرام المنهي عنه شرعًا، لقول الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }[الأنفال:46]، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:103]. كما كان من متطلبات الالتزام الإسلامي والروح الإسلامية، التعاطي مع مبادرات الصلح التي دعت إليها أطراف إسلامية كثيرة؛ مثل المصالحة التي دعت إليها "هيئة علماء الصومال" منذ بدء الأزمة، والتي كانت مرتكزة على مرتكزات إسلامية واضحة. ومثلها المبادرة التي قام بها "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" برئاسة العالم الجليل الدكتور يوسف القرضاوي. وأيضًا الرحلات المكوكية التي كان قام بها الدكتور عبد الرحمن النعيمي رئيس الحملة العالمية لمقاومة العدوان. وكذلك النداء الذي تقدم به العالمان الجليلان الدكتور عمر عبد الله النصيف والشيخ عبد الله بن بية. وكان ينبغي التعاطي مع هذه المبادرات المخلصة، لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات:9]. ولقوله، صلى الله عليه وسلم،: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار .. » رواه البخاري. ولقوله، صلى الله عليه وسلم، أيضًا: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض». رواه البخاري. ولقوله، صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «.. فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا..» رواه البخاري. كل المبادرات الإسلامية السابقة انطلقت من أن الرئيس شيخ شريف شيخ أحمد رئيس إسلامي، وله ماضٍ إسلامي جهادي، ويمثل فصائل ومجموعات إسلامية مخلصة ولها سابقتها الجهادية، وعليه فيجب عدم مناصبته العداء الفوري، لأن من العدل الذي يدعو إليه الإسلام إعطاؤه المهلة الكافية للعمل، ولكي تظهر آثار أفكاره وبرامجه، فإن وجدنا خيرًا حمدنا الله، وإن وجدنا انحرافًا قاومناه مقاومة الأخ لأخيه، فإن حدث اتفاق كامل على فساد الرجل ونظامه بعد ذلك، ودلت القرائن عليه، عندها يكون الخروج المسلح عليه له ما يبرره. والمبادرات الإسلامية السابقة ارتكزت أيضًا على أن أبرز مطالب الفريق المناوئ لشريف والذي تتزعمه "حركة الشباب المجاهدين"، هي تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو الطلب الذي أقره البرلمان واعتمده شريف، وبالتالي فلا يمكن توجيه اللوم إليه في هذه القضية. إننا لا ننطلق من تأييد أعمى لشيخ شريف ومن معارضة مبدئية لخصومه، ولكننا ننطلق من أن ما فعله شريف أصبح أمرًا واقعًا، لم تتفق الأمة على خطئه وإنما رأى قطاع كبير أن بإمكانه أن يحقق شيئًا للأمام شريطة أن يأخذ فرصته، ونحن لا نسير مع شريف مؤيدين على أي وجه كان، وإنما الفرصة معناها مدة زمنية معقولة يعقبها تقييم شامل. وكان المستغرَب أن "حركة الشباب المجاهدين"، مثلما رفضت التعاطي مع كل مبادرات المصالحة والتوافق، رفضت التعاطي مع آخر مبادرة توافق ومصالحة قدمتها الجامعة العربية، ثم رفضت المبادرة الليبية، بحجة أنها لا تتعاطى مع أي أمر لا يقوم على الشريعة، والسؤال هو: ألم تكن المبادرات السابقة كلها إسلامية وتنطلق من ثوابت الشريعة، التي أهمها تحقيق وحدة الصف وإصلاح الشأن الداخلي للأمة؟ أما كون شيخ شريف قد تعاون مع الولاياتالمتحدة أو اجتمع بأطراف أمريكية أو غربية، فهذا عمل دبلوماسي غير مستنكَر، فالرجل رئيس دولة لها مصالحها المتماسة مع مصالح دول أخرى، وفي العالم اليوم لا يجوز الانغلاق على النفس وعدم التعاون مع العالم من حولنا، فهذا ضد سنن الكون وطبائع الأشياء، والعبرة بالنتائج المتحققة على أرض الواقع وليس بمجرد الاجتماعات. على الإسلاميين، خاصة الذين حملوا سلاحهم واستهدفوا الناس الأبرياء، أن يعلموا أنهم كل يوم يؤدي خروجهم على الدولة إلى سفك دماء العشرات من الصوماليين الأبرياء الذين يتساقطون قتلى بالسلاح الإسلامي دون ذنب اقترفوه، وإلى هجرة عشرات آخرين من منازلهم بعيدًا عن هذا الجحيم الذي صنعه الإسلاميون بدلاً من أن يكونوا مصدر خير وأمن ورخاء للناس. وإذا كان الصوماليون في حالة معاناة وانعدام وزن وفوضى منذ أكثر من عشرين عامًا، فإنه من المستهجن أن يكون أي إسلامي سببًا في ضياع فرصة أن يكون الإسلاميون هم من أعادوا بناء الدولة الصومالية من جديد. وإذا كانت وكالات الأممالمتحدة تحذر من هجرة مئات الآلاف من الصوماليين بسبب الفيضانات التي أدت إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية البائسة في البلاد، فقد تسببت هذه الفيضانات في ترك 16 ألف صومالي لمنازلهم، ليضافوا إلى نحو 5.1 مليون مشرد منذ بداية عام 2007م، وأصبح نحو 6.3 مليون صومالي بحاجة لمساعدات دولية، فعلى الإسلاميين الصوماليين أن يعلموا أن هذا عبء لا يستطيع الناس تحمله، والمطلوب هو التعاون من أجل التخفيف عنهم بدلاً من إعناتهم. كنا نريد ألا يفرط الإسلاميون في الفرصة التي كانت فيها حكومة شيخ شريف أول حكومة تجتمع في العاصمة بعد سقوط نظام زياد بري، وتضم مؤسسة الرئاسة والوزارة والبرلمان ومجلس الشورى، وهذا الوضع كان يتطلب تضافر الجهود معها ليعلو ويرتفع صوتها، وليس القتال ضدها وعرقلة سيرها. إن الناس العاديين في الصومال لا يجدون ما يسد رمقهم، ويفقدون الأمن، ويسير كل واحد منهم يحمل بندقيته ليحمي نفسه، وأكثر من نصف الشعب الصومالي دُمرت بيوتهم وقتل أولادهم وحرقت مزارعهم وتعرضوا للكوارث، كما أن ما يزيد على مليونين ويصل إلى ثلاثة ملايين صومالي أصبحوا لاجئين، ينتشرون في كل أنحاء العالم، وبعضهم سافر حتى إلى إسرائيل هربًا من هذه الظروف، ومن هؤلاء اللاجئين من يتعرض لحملات التنصير التي تحاول استغلال ظروفهم السيئة، وكثير من الكنائس اصطادت الأطفال وغربت ثقافتهم، مما يهدد هويتهم المستقبلية. إزاء كل هذه الظروف والملابسات، فإن الأمانة الملقاة على عاتق الإسلاميين الصوماليين، بمختلف فصائلهم واتجاهاتهم، كبيرة، والناس ينظرون إليهم وينتظرون قرارهم: هل يقدمون مصلحة الصومال القومية على مصالحهم السياسية والفصائلية واختلافاتهم الفكرية، من خلال الالتفاف حول الحل الوحيد وهو دعم الحكومة دعمًا كاملاً في كل النواحي؟ أم سيكونون وجهًا آخر لأمراء الحرب الذين استغلوا معاناة الشعب الصومالي وأثّروا من خلالها؟ إننا ندعو "حركة الشباب المجاهدين" أن تعيد التفكير في موقفها بعد أن أعلنت شرطًا واحدًا فقط للتفاوض مع حكومة شيخ شريف، واعتبرت أن الحل الوحيد للصوماليين هو العودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله، وأن الصوماليين لا يحتاجون إلى بدائل أخرى غير الشريعة الإسلامية، فما نعلمه هو أن هذا الشرط متحقق، أما الشرط غير المتحقق فهو التعاون من أجل نجاح المشروع الإسلامي، ولو أن حركة الشباب هي التي تحكم الصومال الآن، ثم قامت الفصائل المنضوية تحت رئاسة شيخ شريف بالخروج عليها وحمل السلاح ضدها، فإنها لن تستطيع أن تفعل شيئًا أو تحقق أمنًا وسلامًا ووئامًا واستقلالاً حتى ولو كانت ترفع لواء الشريعة، ما لم تتحقق الوحدة والتعاون والمصالحة. ورغم أن أي حل للأزمة الصومالية يتوقف على عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، وأن أي مستقبل آمنٌ للصوماليين رهنٌ على جهود صادقة يبذلها المجتمع الدولي، فإن الأهم من ذلك هو الجهد المبذول من أطراف الداخل وعلى رأسهم أهل الإسلام والحاملون لدعوته ثم الجهد المخلص من حاضنة الأخوة العربية. وإذا كانت الحكومة الصومالية، وبعد قدومها من منفاها في جيبوتي، لم تغير شيئًا على أرض الواقع، وإذا كانت محصلة هذه الحكومة هي ضعف الأداء في العاصمة الصومالية مقديشو، ناهيك عن المناطق الأخرى التي توالى سقوطها بيد المعارضة، مما جعلها محصورة في عدة أحياء من العاصمة، وإذا كان الأمن والاستقرار - وهما أهم ما يحتاج إليه الصوماليون - مفتقدَيْن في الصومال وخاصة في العاصمة مقديشو، التي عادت إليها ظاهرة القتل العشوائي والاغتيالات وهو ما أصبح مصدر قلق دائم لمواطنين الصوماليين.. فإن موقف المعارضة السلبي من هذه الحكومة والتي يرى أنها مفروضة على البلاد من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية ولا تقدر على البقاء إلا بالآلة العسكرية التابعة لبعثة الاتحاد الإفريقي، كان سببًا رئيسًا في هذا الضعف والفشل؛ لأن الحكومة وجدت نفسها في حرب مستمرة ولم تجد الوقت للعمل في ملفات اجتماعية واقتصادية تهم الصوماليين وتخفف عنهم معاناتهم ويشعرون من خلالها بقيمة الحكومة وإنجازاتها المصدر: الإسلام اليوم