لنأخذ استراحة من السياسة (إلا قليلاً) ولنقف اليوم مع رواية الأستاذ إبراهيم عيسى (مولانا)، والمرشحة ضمن القائمة النهائية لترشيحات جائزة البوكر العربية. وبطل الرواية هو أحد الدعاة المشاهير الذي يستخدم اللغة المبسطة في طرح الأمور الدينية والإجابة عن الفتاوى عبر برامج الفضائيات فوصل إلى شريحة واسعة من جمهور المشاهدين وخاصة من الشباب وحاز على شهرة واسعة وثراء مادي، وتصور الرواية ما يواكب هذا من علاقات مع مشاهير المجتمع وصراع مع المشايخ المنافسين وتماس مع جهاز أمن الدولة بل وعائلات الرجال النافذين في الحكم، والداعية الشاب تبحر طويلًا في كتب العلم قبل مرحلة الشهرة فكون آراء فكرية متفتحة في مسائل هامة، لكنه يحتفظ بتلك الآراء لنفسه وتظهر في مناسبات خاصة مع بعض محاوريه بعيدًا عن الكاميرات، أما أمام الكاميرا فلا يقول إلا ما يرضي الجمهور. والرواية- في رأيي- كانت لتصبح عملًا روائيًا جيدًا لولا أن جنى عليها كاتبها سامحه الله، فجعلها عملًا فكريًا وأيديولوجيًا وليس روائيًا، حيث خرجت الرواية من بين يديه في النهاية عملًا سياسيًا موجهًا لا يعد أكثر من طلقة في الحرب الأيديولوجية التي تعيشها مصر بين الإسلاميين والعلمانيين، وسحقت السياسة الأدب على صفحات الكتاب (ولا أقول الرواية هنا)، وإلا فأين تجد في الفن الروائي أن يسرد الكاتب صفحات متتابعة في شرح ديني فكري في موضوع معين على لسان البطل تحت مشهد حلقة تليفزيونية أو مناقشة بين البطل وأحد الشخصيات، ويتكرر هذا مرات كثيرة على صفحات الكتاب، حتى ينسى الأستاذ إبراهيم عيسى أن يقدم عملًا روائيًا ويظن نفسه يكتب مقالاته المطولة التي تنشر في الجرائد، بل لعله نقل بعضها حرفيًا على لسان البطل!!، فحول العمل الروائي إلى مناظرات فكرية يبث لنا فيها آراءه الدينية على لسان البطل، ولا شك أن هذا أضعف عمله من ناحية الفن الروائي، وما كان هذا ليخفى على الذين اختاروا هذه الرواية للترشح للجائزة، مما يدل بوضوح أن السياسة تتداخل كثيرًا في مجال الأدب، وأن اختيارها رسالة سياسية غضت الطرف عن الضعف الأدبي الذي أصابها. و(مولاه) الشيخ حاتم الشناوي لا يجد غضاضة في أن يصارح والده دون مقدمات أو سياق مقبول أنه تاجر علم وليس شيخًا أو داعية!!، ومولاه وأقرانه يتعاملون مع برامج الفضائيات أنها سبوبة رزق دون أي رسالة، ومولاه يرى في آية (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أن الخسران ممكن أن يكون خسران امتيازات معينة وليس دخول النار!!!، (كأن مولانا لم يسمع قول الحق " قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"، كأن مولانا لا يعرف أن المآل ليس فيه إلا جنة أو نار، وأن الذي يدخل الجنة ولو كان آخر من يدخلها لا يمكن أن يطلق عليه أنه من الخاسرين بأي حال من الأحوال)، ومولاه يرى أن البخاري فيه (مئات) الأحاديث الغريبة الضعيفة!!، ويستغرق في الطعن على البخاري سبع صفحات في حوار مع محدثه (في رواية أدبية)!، ومولاه يرى أنه لا يوجد حد الردة، ويستغرق في ذلك ثلاث صفحات، ومولاه يميل للمعتزلة مقارنة بأهل السنة ويستغرق في ذلك عشر صفحات مع محدثه (في رواية أدبية)!!، وأهل السنة والجماعة عند مولاه هي الفرقة التي وجدت لتبرر سفك دم أهل البيت في كربلاء!!، وعذاب القبر عنده يستغرق صفحتين من (الرواية) يؤكد فيهما أنه لا يوجد عذاب قبر وأنه لم يذكر في القرآن مطلقًا، وليس فيه إلا حديث واحد ضعيف، ولا يظهر في الرواية من ينبه الشيخ حاتم لقول الحق في كتابه إلى الآيات التي تؤكد وجود عذاب القبر "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"، وقوله تعالى "فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ "، ولا حديث الرسول الذي رواه مسلم " قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، ومولاه يرى أن أحاديث الآحد لا يؤخذ بها في العقائد أو (التشريع)، وإنما يعمل بها مثلًا في فضائل الأمور!!، هنا يخلط بين أحاديث الآحاد وبين الأحاديث الضعيفة، وهي غلطة يقع فيها مثل إبراهيم عيسى ولا يمكن أن يقع فيها داعية مبتدئ ناهيك عن داعية متبحر!!. وكما بدأت الرواية بالبطل يعترف أنه تاجر دين أصر الكاتب أن يصرح بها في الجزء الأخير، حتى لا يعطي للقارئ فرصة ليتخيل أنه أمام عمل أدبي على القارئ نفسه أن يكون رأيه دون وصاية الكاتب!!، لكننا كما قلنا بصدد عمل سياسي أيديولوجي ولسنا أمام فن أدبي، ومولاه خائن لزوجته وزوجته خائنة له، ومولاه لا يتحرج من باب التبسط في اللغة من استخدام كلمات مثل (وحياة أمك)، و(وجيهة دي تبقى خالتك)، (ما تطلعش دين أبويا)!!... وكلمات أخرى لا يمكن ذكرها في المقال لبذاءتها!!.... والخلاصة أن الكاتب ألقى بثقله على الرواية فكسرها، فحاتم الشناوي هو ذاته إبراهيم عيسي في دور الداعية الديني، فمن كان إبراهيم عيسى مولاه فبطل الرواية مولاه، لكنه بالتأكيد... ليس مولانا!!. [email protected]