لسنا نبالغ إذا قلنا إن إشكالية الدين والسياسة من أعمق الإشكاليات وأكثرها جَدَليةً في مصر عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير، لاسيما بعد أن حقق الإسلاميون نتائج متقدمة في الانتخابات التشريعية، مما حدا ببعض القوى السياسية أن تطالب الإسلاميين بالابتعاد عن حَلَبَةِ السياسة على اعتبار أن للسياسةِ أهلها الذين يتَعَاطَون معها ويُتقنون التعامل مع مفرداتها. إن فكرة الفصل بين الدين والسياسة تضرب بجذورها إلى الوقت الذي حُسم فيه الصراع المستعر بين الكنيسة والعِلم، وهو الصراع الذي بدأ في القرن السابع عشر والثامن عشر، واستمر حتى مطلع العصر الحديث، وقد كانت الثورة الفرنسية (1789م) التي قامت ضد إقطاعية رجال الكنيسة وتسلطهم - آنذاك - إيذانًا بالفصل التعسُّفي بين الدين والسياسة تحت مُسمَّى (العلمانية) عملًا بقول المسيح: "دعْ ما لِقَيْصرَ لِقَيْصرَ وما للهِ للهِ"، كما كانت إيذانًا بالولوج إلى مرحلة جديدة من العداء للأديان قاطبةً باعتبارها كهنوتًا وتسلُّطًا، وبداعي مجافاتها للعلم وسنن التقدم، وهو الأمر الذي وجَدَ رَوَاجًا في بلاد المسلمين بعد ذلك لاسيما في ظلِّ ذُبُول الخلافة العثمانية (أو الرجل المريض كما كان يحلو للأوربيين تسميتها في ذلك الوقت) فضلًا عن ما أصاب الأمة من ركود علمي جعلها تتذيل الأمم بعد أن سادت أوروبا نفسها، حتى كانت شوارع أسبانيا تُضاء ليلًا تحت الحكم الإسلامي، على حين كانت أوروبا تسبح في بحيرة الظلام والجهل. وفي الحقيقة فإن إشكالية الدين والسياسة ترجع في الأساس إلى عدم إيمان البعض بشمولية الإسلام لمناحي الحياة وصلاحية شرائعه لكل العصور بالرغم من كون الإسلام دينا قِيَمًا شاملًا لكل مناحي الحياة بعيدًا عن الرهبانية والتنسُّك الزائف، وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم في أكثر من موضع كقوله تعالى: (قُلْ إنَّ صَلَاتِيِ ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِيِ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين)، وقوله (وَابْتَغْ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخرةَ ولا تَنْسْ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا)، ولعل هذا ما حدا ببعض المفكرين من غير المسلمين أن يسجِّل إعجابه بهذه الشمولية حتى إن (برناردشو) قال: "لقد كان دين محمد موضع تقدير سَامٍ لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة, وأنه الدين الوحيد الذي له مَلَكَة الهَضْم لأطوار الحياة المختلفة, وأرى أنه من الواجب أن يُدعى محمد منقذ الإنسانية، وأن رجلًا كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث فسوف ينجح في حل جميع مشكلاته". ثمة داعٍ آخر يراه البعض مُسوِّغًا للفصل بين الدين والسياسة وهو السُّمو بالإسلام باعتباره دينًا رُوحيًا قِيَميًا فوق السياسة الميكافيلية التي تُبرر الغايةُ فيها كلَ الوسائل حتى تلك التي لا تتفق مع المنظومة القيمية للإسلام، وهذا أمرٌ يستحق الوقوف أمامه مليِّا؛ فقد أرسى الإسلام قواعد حاكمة كانت نواة للنظرية السياسية الإسلامية، ولعل مبدأ الشورى الذي سبق (الديمقراطية الأمريكية) المزعومة بعدة قرون لخير دليل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد مارس السياسة والحكم قولًا وفعلًا؛ وإلا فكيف له أن يختار السفراء، ويُسيِّر الجيوش، ويفاوض الأعداء، ويؤسس دولة مدنية تقوم على علاقات داخلية وخارجية، وتسود فيها روح التكامل والتآلف، وينعم فيها الجميع بحقوق المواطنة؟! ولقد مثَّلت وثيقة المدينة نقلة نوعية جديدة قبل أن يعرف العالم (العقد الاجتماعي) ولا (الماجنا كارتا) التي يسهر الخلق جَّراهَا ويَخْتَصِمُ.. أليست هذه سياسة؟! ومن عجب أن يتكئ البعض ممن ينادون بالفصل بين الإسلام والسياسة على التجربة التاريخية التي شهدت تجاوزًا واضحًا في فترات الحكم الإسلامي المختلفة، وهو أمر لا يمكن الاختلاف حوله، ولكن هذا الأمر لم يخل من مبالغة، فكتاب مثل (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني قد أَسْهَمَ في تشويه كثير من الحُكَّام وتصوير قصورهم على غير حقيقتها!! نعم، شهدت هذه العصور تجاوزاتٍ لا صلة لها بالإسلام؛ حتى إن الدولة الفاطمية قامت في الأساس على توظيف الدين في خدمة السياسة على وجه غير مسبوق، وتجلَّى هذا الأمر في خطاب أحد الشعراء للخليفة الحاكم بأمر الله (ت114 ه) مُنْزِلًا إياه منزلة الربوبية: ما شِئْتَ لا مَا شَاءَتْ الأَقْدَارُ .. فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الواحِدُ القَهَّارُ ولكن هذه الممارساتُ هي من الأمورِ الشاذةِ التي لا يُقاس عليها ولا تُمثِّل الإسلام في شيء، فقد قدَّم التاريخ الإسلامي نماذج مشرِّفة للحكم الرشيد بدءًا من الخلفاء الراشدين حتى سقوط الدولة العثمانية، ويبقى القولُ أنَّ أيَّ منهج لا يعيبُه سوءُ تطبيقه، تمامًا كما يُساء تطبيق الديمقراطية للوصول إلى أهداف لا تتفق مع غايتها التي وُضعت من أجلها.. فالعيب حينئذ في التطبيق وليس في التنظير.