عن أبي بكرة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه قيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم، والزبرقان بن بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن الأهتم: "ما تقول في الزبرقان بن بدر؟". قال: يا رسول الله، مطاع في أنديته، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم أكثر مما وصفني به، ولكنه حسدني. فقال عمرو: والله يا رسول الله، إنه لزَمِن المروءة ضؤل العطن، لئيم الخال، أحمق الوالد. وكأن عَمرا قد عرف الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كيف يذم الرجل ويمدحه في مجلس واحد، فبادر يعتذر قائلا: والله يا رسول الله، ما كذبتُ أولا، ولقد صدقتُ آخرا، ولكني رضيتُ فقلتُ أحسن ما علمتُ، وغضبتُ فقلتُ أقبح ما علمتُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما". عند أصحاب المبادئ: الحقيقة حسنة لذاتها، مقصودة لذاتها، إنها القبلة التي تحدد وجتهك، إنها الهدف الذي ينبغي أن تتصاغر بجواره الذوات، والمصالح، والخصومات، والعلاقات، إنها ليست سلاحا في المعركة بين الخصوم، وليست ورقة يلقى بها على موائد اللعب، إنها لا تخضع – ولا ينبغي أن تخضع – لمنطق الحب والبغض، والقرب والبعد، والرضا والغضب، كما صرح عمرو بن الأهتم: رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت. وإنما ينبغي أن تخضع لمنطق التجرد للحقيقة وحدها. وإذا كانت مروءة عمرو قد منعته الكذب، فإن البعض قد يفعل. تجد البعض مع الرضا يبالغ في المدح حتى ليكاد يرفعك فوق الغمام، ومع الغضب يريد أن يخسف بك سابع الأراضين، حين يطلب المناصب يضفي من ألوان العظمة ما يوقن أنه محض كذب، وحين ييأس يصور من كان يرجو نواله شيطانا رجيما، وإبليسا لعينا. لكأني بالبعض يحكي المتنبي وهو يمدح كافور الإخشيدي ويبالغ في مدحه، فلما لم يوله ذمه وأقذع في ذمه، ولكن المحاكي ليس له فصاحة المتنبي، ولا ألمعيته، ولا ذكائه، ليس له من المتنبي إلى الرغبة في الشرف التي قادته إلى حتفه، وستقودهم كذلك. لا يعلم البعيد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة بلا مسوغ معتبر لا يجوز، وأن للحقائق من المعنويات، كالبضائع من الحسيات يكون لها تاريخ صلاحية، إذا تجاوزته تنعدم فائدتها أو بل قد تحقق ضد ما جعلت له. لماذا يا هذا تكذب نفسك بنفسك، وتطلق بيدك النار على رأسك، لا نحتاج في تكذيبك لغير مواقفك السابقة وكلامك، فانتبه للعصر الذي تعيش فيه، العصر الذي لا تموت الكلمة فيه، وإنما هي حية حيث طلبتها وجدتها، مكتوبة أو مسجلة أو مصورة، فارفق بنفسك وأربع عليها. أين كان هؤلاء، من أي جحور خرجوا؟ يدَّعون البطولة الآن، فأين البطولة من قبل؟ حين كان للبطولة ثمن، يخاطبوننا وكأننا معاتيه لا عقول لنا نزن بها ما يقال، يحدثوننا عن أنفسهم وكأنهم ولدوا اليوم، وكأنهم وهبوا السمع والبصر والبيان بعد أن كانوا صما بكما عميا فهم لا يرجعون. إننا نعرف أو نتوقع ما سبب كلامكم الآن، فلا تشغلوا أنفسكم ببيانه، ولكن فقط أخبرونا لماذا سكتم؟ بل لماذا كنتم تقولون بلسان الحال أو المقال ضد ما كنتم تقولونه الآن؟ وما أحسبهم يجيبون. دعوا الحقيقة وشأنها، فلستم أحق بها وأهلها، ولستم منها وليست منكم، ليس طريقكم هو الوحيد إليها، بل هناك طرق نظيفة لم تتلون بالرغبات والخصومات الشخصية التي تغلف حقيقتكم، دعكم من الحقيقية المطلقة، وعليكم بحقيقة أنفسكم التي فقدتموها. ورحم الله من علمنا أن كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر، لا يُسمع، ولا عبرة فيه، ولا يُبالى به ولا يُعول عليه، لا سيما إذا كان بينهما منافسة أو عداوة، أو صدر عن هوى أو عصبية. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]