شبعنا من الكلام المحفوظ (إننا جميعاً في سفينة واحدة)، بيد أن هذه السفينة الواحدة لا يصعدها إلا من أراد بنفسه الصعود إليها، والالتزام بقوانين السير فيها، وفي قصة الحديث المشهور عند البخاري عن الذين حاولوا خرق السفينة من أسفلها فكاد أن يغرق الجميع، كانت الرسالة: "إذا أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإذا تركوهم غرقوا جميعاً". والذي لا يحاول أن يفهم طبيعة السفينة الحالية يظنُّ أنها القارب العتيق، أو السفينة ذات الشراع التي تلعب بها الرياح العابرة، غافلاً أو متغافلاً أن السفينة أكبر حجماً، وأعقد تصميماً، وأصعب ضبطاً مما يظن الظَّانُّ لأول وهلة. ولعل فيلم "تايتانيك" يقرِّب الصورة!. وأذكر في هذا الشاهد رحلتي من السويد إلى فنلندا عبر ناقلة سفن بحرية، مكونة من (11 طابقاً)، بها غرف فندقية، ومطاعم، وأسواق، وطوابق للسيارات، والبضائع، مع الحشد الهائل من الركاب. هذه الصورة تستفز في دواخلنا القراءة الجادة والواقعية ذات الفاعلية في مسيرة حياتنا داخل السفينة الواحدة، أو المركب الواحد، كما يحلو للبعض. المهم في هذا أن نشعر أن تلك السفينة أو ذاك المركب يتحرك بآليات أكثر تعقيداً، لا يتحقق استقرارها إلا باستيعاب الجميع، ومشاركة الجميع، وإلا حلَّت الفوضى، وكثرت الثقوب التي لا يغني عنها صوت سماعات الإنذار. في زمن الناس اليوم نجدهم يفكرون بسياسات جديدة تناسب حياتهم وتطلعاتهم ومستقبلهم. إذلم يعودوا يفكرون في النظريات السياسية المجرَّدة عن الحقائق، وما عادت تستهويهم مقطوعات البيانات والخطابات والترقيعات. دعونا نتصارح أن اللغة الاستهلاكية الحكومية في الوطن العربي -في معظمها- تعيش شللاً فكريّاً، وجهلاً وارتباكاً سياسيّاً عميقاً. فالإعلام ما عاد يملكه التيار الحكومي لوحده، وكواليس الاضطهاد وكبت الحريات ما عادت تستجيب لمصطلح (سرِّي)، فكل شيء بات معلوماً ومكشوفاً عاجلاً أو آجلاً، والشعوب لها رأيها كما للحكومات رأيها، وإصدار النظم ما لم تنسجم مع متطلبات الشعوب سيبدو عوارها مهما غُلِّفت بزيف المصالح. بالأمس القريب كنت أقرأ عن سياستنا العربية الداخلية كتاب: (شهادتي) لوزير الخارجية المصرية الأسبق (أحمد أبو الغيط) وكواليس ما كان يدور في القصر الرئاسي إبَّان ثورة (25 يناير)، وبعدها قرأت كتاب (يوسف ندا) مع (دوجلاس تومسون)، ووقائع التفكير الغربي من خلال خبرة (ندا) بوصفه مفوضاً دوليّاً لكبرى الحركات الإسلامية، مع ما في كتابه من حقائق ووثائق. العصر الحديث (عصيٌّ) على تأطير النظم الحكومية العربية لشعوبها في مجال الحريات العامة. وكل القوانين التي تصدر في مواجهة هذه التغيرات الجادة نحو مطالب الحريات والعدالة، هي تأكيد لفكرة المعارضة لا الترويض!. ومن قديم استوعب الكواكبي الدرس، وقال عن طبيعة من في السياسة: "ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس، وتوسع العقول، وتعرف الإنسان ما حقوقه". بيد أن المستبد في عصر الكواكبي لم يعش عصر الإعلام الحديث بكل آلياته وسرعته وفاعليته وتداعياته، وإلا لعلا صوت جرس إنذاره!. والحال نفسه على مستوى السياسات الخارجية التي ترتبط الشعوب بمواقفها على الصعيد السياسي والفكري والمالي في درجاته الأولى. ولن تغني الشعارات شيئاً ما لم يشارك الناس برأيهم في المواقف الاستراتيجية السياسية الداخلية والخارجية لأوطانهم أصابوا أم أخطأوا. أو بتعبير (علي الوردي): "إننا نحتاج إلى منطق جديد يطابق نواميس الحياة الواقعية، وبهذا المنطق ننجوا من هذا الازدواج العجيب في شخصيتنا وعقولنا". ومن غير وضوح الرؤى السياسية، ستصارع الحكومات العربية أجيالاً جديدة بأفكارهم العالية، ومواقفهم السلمية الواضحة، يمكن وصف كل منهم كما عبر أحد السياسيين الغربيين: "إنه رجل ينظر إلى الشيطان في عينيه، ويظل محدقاً حتى يغلق الشيطان جفونه، ولا يهمه في أي صورة يتنكر هذا الشيطان!". أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]