كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه و سمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر... حديث طويل نتعلم في نهايته أحد أروع الدرس في فنون ورسالة الإعلام التي تقوم على دفع الظلم ورفع الغبن ومحو الظلام وطمس الجهل وتوعية الناس وتبصيرهم مهما علت كلفته. يتضح ذلك جليا في نهاية الحوار بين الملك وذلك الغلام الذي لم يكن يمتلك غير إيمانه بقضيته واستعداده لدفع حياته ثمنا لها. فقال للملك أنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال ما هو ؟ .. ترى ماذا سيفعل هذا الغلام لاستغلال هذا الموقف العصيب حيث يقدم روحه قربانا لتحقيق هدفه وتعريف الناس بقضيته؟ ليس هناك مدينة الإنتاج الإعلامي ولا قناة الجزيرة ولا حتى فيسبوك أو تويتر لكنه فطن إلى استخدام وسيلة إعلام أقوى من كل ما ذكرت. قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ...فجمع الناس في صعيد واحد و صلبه ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات ... فقال الناس آمنا برب الغلام .. فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس. وضع هذا الغلام أساسيات علم نفس الجماهير قبل أن يعرفه فرويد أو يكتب عنه جوستاف لوبان. علم أن للجمهور تهوره وصولا لحد الانتحار مدفوعا في ذلك بحملات الشحن الإعلامي والتحريض باتجاه الفتنه فأستحدث نوع جديد من الخطاب الإعلامي الذي يعتمد على المصداقية والحياد والنزاهة في عرض القضية. إعلام يعمل في أوساط الناس .. يحتك بهم ويعيش آلامهم .. يشاركهم أحلامهم وطموحاتهم، ولا يركن إلى مخاطبتهم من القاعات المكيفة والاستديوهات المجهزة. يذكرنا ذلك بما حدث مع نبي الله موسى عليه السلام في مقاومته لطغيان فرعون وفساد عقيدته وتكبره حيث جمع الناس ليوم الزينة باحثا عن أكبر تجمع بشري وقام بعرض رسالته على الملأ يدعمها بالحجج الداحضة ويعضدها بالدلائل والبراهين . فما كان إلا أن آمن معه الناس وعرفوا الحق على يديه واتبعوه. إن الإعلام الذي ننشده اليوم بمفهومه الدقيق هو الإعلام الذي يعرض قضايا الأمة بموضوعية ويصف مشاكلها وكيفية معالجتها باتزان ورجاحة وبحياد تام ونزاهة كاملة في ضوء القيم والمبادئ العامة للدولة من خلال الوسائل المتاحة وبالأساليب المشروعة. مما لا ريب فيه أن الإعلام هو مرأة كل حاكم يستطيع من خلاله رؤية مشكلات أمته ومن ثم يسعى جاهدا لإيجاد الحلول الواقعية لها. أما وقد صار الإعلام المرئي والمسموع والمقروء صناعة رابحة وتجارة رائجة لرجال الأعمال و في ذات الوقت سيف مشهر بيد أصحابه في ظل غياب أو تغييب مستهجن للإعلام الرسمي، فقد لوحظ في الآونة الأخيرة أن هناك تعد صارخ على قيم المجتمع وثوابته، وانحراف للإعلام الرأسمالي عن مهنية الطرح والعرض، وتفلت القائمون عليه من كل التزام بمواثيق الشرف وأخلاقيات المهنة. أصبح قمر النايلسات مكتظا ومتخما بالفضائيات التي تنشر الفاحشة وتمارس العهر وتروج للرذيلة بشتى أنواعها السياسية والثقافية والاجتماعية والجنسية. بكبسة زر واحدة الآن تجد نفسك دون سابق إنذار معرض لإغراء يفوق الخيال أمام المناظر الخليعة للممثلة الفلانية والمشاهد المثيرة للراقصة العلانية وميوعة تلك المطربة العالمية. وصار بالإمكان إرسال رسائل الحب والغرام والمواعدة وتلقي أرقام الكثير من فتيات الليل وعاهراته دون وازع من دين أو ضمير وبلا أدنى خجل أو حياء من المسئولين أو خوف من أي قانون. إذا تحولت قليلا على الجانب الآخر سيدهشك مجدي الجلاد ومحمود سعد ومعتز الدمرداش، وغيرهم كثيرون، وقد شمروا عن سواعدهم واستنهضوا هممهم، في حرب ضروس لا هوادة فيها، ومعركة افتقدت كل معاني الشرف والأمانة مع رئيس الدولة وحزبه وجماعته تجاوزت كل الخطوط الحمراء وزادت في فجورها حد الخصومة السياسية، واستخدمت فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة. عقب اندلاع ثورة يناير مرت التغطية الإعلامية بمراحل صعبة من التخبط والارتباك والتشويش على مدار أكثر من عامين. فمعلوم لنا جميعا أن غالبية قنوات التلفزة وبرامج التوك شو قبل 25 يناير كانت تدار بمعرفة ضباط أمن الدولة، وتدور كلها في فلك تقديس الفرعون وتعظيم أسرته وعائلته. كان من غير المسموح الاقتراب من أسوار مملكته أو حتى الإشارة إليها. أثناء الثورة قاتل هؤلاء المرتزقة القابعين في مدينة الإنتاج الإعلامي وخارجها لإفشال انتفاضة الشباب وثورة الشعب لكن باءت كل محاولاتهم بالفشل. فسارعوا بعد سقوط الطاغية إلى تقديم كل فروض الولاء والطاعة للثورة والثوار. بدلوا جلودهم على عجل وتغير منطقهم وأصبحوا ثوارا أكثر من الثوار أنفسهم. لم يدم ذلك طويلا حيث أفتضح نفاقهم وانكشف مخبوء صدورهم عند ترشح أحد رموز الدولة العميقة للرئاسة. منذ ذلك الحين أضحى الإعلام كما يقول صلاح الإمام إعلام سالومي. إعلام جوزيف جوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلرالذي قال: «كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسى». كأني به اليوم يدير منظومة الإعلام المصرية بشعاره الشهير: «اكذب حتى يصدقك الناس». وقد أكدت ظاهرة جوبلز هذه أن الذي يملك وسائل الإعلام يملك القول الفصل في الحروب الباردة والساخنة. لم يعد إعلامنا إعلام موسى عليه السلام ولم يبق إعلام غلام الأخدود الذي دفع حياته ثمنا لكي يبقى الحق وينتشرالعدل وتعم المساواة. في النهاية يمكن القول أن كلمة الفصل في كيفية مواجهة إعلام سالومي وإعلام جوزيف جوبلز هي مقولة الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش: «ليس هناك دواء للصحافيين المستعدين للكذب في دولة ديموقراطية، باستثناء رفع سوية الشعب، والارتقاء بمستوى التعليم والثقافة العامة، بحيث يستطيع الناس أنفسهم تمييز الكذب من الحقيقة، والغث من السمين». أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]