عندما عاد الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه من بيت المقدس بعد فتحه وكتابته عهدًا للمسيحيين يؤمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وإلى آخر تلك الحادثة الزاهرة فى تاريخ الإسلام الحقيقى المتسامح رأى الفاروق فى سوق المدينةالمنورة إبلاً سمانًا، فسأل: لمن هذه الإبل، فرد عليه ابنه عبدالله: إنها لى، فسأله من أين ثمنها، فقال: هو مال لى أتاجر فيه، فقال: لماذا هى سمان بينما الإبل الأخرى ليست كذلك، فقال: هى ترعى مثل الإبل الأخرى فى نفس الحمى، فقال عمر بذكائه وقلبه النوراني: إن عمال الحمى يجاملونك لأنك ابن الخليفة فيقدمون إبلك فى المرعى والمورد، ورغم نفى عبدالله أى توجيه من جانبه للعمال بمعاملة خاصة لإبله، إلا أن الفاروق طلب منه بيعها وأن يسترد رأس ماله وما زاد يدفعه لبيت مال المسلمين، أى يخرج عبدالله بلا أى مكسب من تجارته وما كسبه يعطيه لبيت المال. هذا هو العدل، بل هو عين العدل، لذلك سمى سيدنا عمر بن الخطاب بالخليفة العادل، ولذلك أيضًا قيل: حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر. لا حاكم فى تاريخنا الإسلامى بعد عمر بنفس عدله وشدته مع نفسه وأهل بيته كحاكم للدولة الإسلامية تحريًا للنزاهة والشفافية المطلقة، بل إن المسلم العادى كان يعيش فى رحابة أكثر من الخليفة نفسه. تذكرت تلك الواقعة بعد نبأ تعيين نجل الرئيس محمد مرسى فى الشركة القابضة للطائرات، ولم يمر على تخرجه 6 أشهر فقط. أى عبقرية يتمتع بها هذا الفتى حتى يحصل على تلك الوظيفة بإعلان داخلى رغم أن تقديره جيد فقط؟ لا يقل لى أحد إن كفاءة عمر محمد مرسى وراء تعيينه، فالمؤكد أن هناك ألوفًا من دفعته والدفعات السابقة أكفأ وتقديراتهم أعلى ولم يتم تعيينهم. ولا يقل لى أحد: هل لكونه ابن الرئيس لا يحصل على وظيفة فى الدولة؟ من حقه كمواطن مصرى أن يعمل مثل غيره، لكن من يضمن لنا أن يعامل على قدم المساواة مع أقرانه، فلولا أنه ابن الرئيس فقط لما كان استطاع الاقتراب من مقر الشركة وليس التعيين فيها. مصر قبل الثورة هى نفسها مصر بعد الثورة. الواسطة والرشوة والمحسوبية فى التعيين وفى تخليص المعاملات، أبناء الكبار مازالوا يحصلون على ما يريدون، ومن لا ظهر لهم مازالوا بائسين، الواضح أنه لا أمل فى مصر، ولا أمل فى عدل أو عدالة حتى لو قامت كل يوم ثورة، وتغير كل يوم نظام. مصر فى عهد مبارك هى نفسها مصر فى عهد الإخوان، لكن المؤسف أن الإخوان يقدمون أنفسهم على أنهم أكثر نزاهة وطهارة وشفافية وعدالة وإيمانًا من غيرهم فى بناء نظام سياسى أخلاقي، ثم تتراكم وقائع تشكك فى هذا التوجه. الفساد هو الفساد سواء كان صغيرًا مثل محاباة نجل الرئيس على ألوف الشباب غيره، أو كبيرًا مثل نهب المليارات من البنوك، والأراضى من الدولة، المهم أن قاعدة العدل والمساواة تتعرض للخدش، ولم يكن متوقعًا أن تكون من الرئيس ولو فى وظيفة لنجله لأنه قدم نفسه على خطى الأوائل الملتزمين بالدين والأخلاق والقيم، وهو أول رئيس منتخب بعد ثورة كان من أهدافها مواجهة الفساد وتحقيق العدالة والمساواة، كما أن ما حصل انتهاك للدستور الذى تحمس له مرسى كثيرًا وفيه مادة تنص صراحة على المساواة فى فرص العمل بين جميع المصريين. لذلك لا يوجد إلا عمر بن الخطاب واحد حتى اليوم، ويبقى محمد مرسى مثله مثل أى شخص آخر رئيسًا أم مواطنًا عاديًا فى نفسه هوى وميل، والأكيد أنه علم بتعيين نجله، أو برغبته فى التعيين، وربما هو الذى أوصى بتعيينه. أتذكر واقعة رواها الأستاذ هيكل تتعلق برغبة الرئيس جمال عبد الناصر بأن تعمل ابنته هدى لكنه تحرج من التوصية عليها للتعيين بالحكومة أو القطاع العام لكونه الرئيس، وستكون هناك مجاملة له وهو لا يريد ذلك، ففهم هيكل الرسالة واقترح على الرئيس أن تعمل فى مركز الدراسات بالأهرام وكان فى طور التشكل ورغم شبهة المجاملة هنا إلا أن طبيعة العمل بالمؤسسات الصحفية قديمًا، وحتى اليوم تعتمد على العلاقات الشخصية بالأساس، وبالتالى يكون تعيينها خاضعًا لتلك القاعدة ولا تخل بقواعد وضوابط عامة لأن تلك المؤسسات لا تخضع فى التوظيف للقوى العاملة كما كان معمولاً به آنذاك فى الوزارات والشركات والهيئات. الرئيس مرسى أكثر من غيره مطالب بتجنب مواطن الشبهات، فهو وحزبه وجماعته مستهدفون وتحت الميكروسكوب فى كل صغيرة وكبيرة، وعندما تكون الحالة صعبة على كل المصريين فيجب أن يكون نصيب الرئيس منها أكبر وبحجم مسؤولياته الدستورية والسياسية والأدبية. ويشاء الله أن نختم المقال بواقعة أخرى للعادل عمر بن الخطاب، ففى عام الرمادة لم يأكل إلا زيتًا وخبزًا فقط حتى تغير لونه، ورفض أن يتناول لحمًا أو أى طعام آخر طالما أن المسلمين لا يجدون ما يأكلونه. لماذا لا يريد الرئيس وابنه أن يشعرا بقسوة البطالة كما كل البيوت فى مصر؟! [email protected]