أثناء زيارتي للملكة المتحدة، زار الرئيس المخلوع حسني مبارك، رئيسَ وزارء بريطانيا في ذلك الوقت (توني بلير) في مقاطعته، وقد تم نشر خبر هذه الزيارة في صحيفة الجارديان البريطانية فيما لا يتجاوز خمسة أسطر، وكان من عادتي أن أطالع الصحف المصرية على شبكة المعلومات الدولية، والتي يتم نشر معظمها على مواقعها بعد منتصف الليل بتوقيت القاهرة، (العاشرة مساء بتوقيت إنجلترا)، وقد جاءت العناوين الرئيسية للصحف الرسمية في مصر تتحدث عن زيارة السيد الرئيس والتي حظيت باهتمام إعلامي وعالمي ليس له مثيل، على الرغم من أن الشعب الإنجليزي لا يكاد يعلم شيئا عن زيارة الرئيس المصري آنذاك.!!! وعندها أدركت أن ما تكتبه الصحف الرسمية المصرية هو جزء من منهج كانت تتبعه مؤسسة الرئاسة لصناعة الزعيم. ولا يخفى على أحد ما كان يحدث في مصر من مشكلات صغيرة كان يكفي لحلها تدخل مدير مدرسة، فيتم تصعيد المشكلة عبر وسائل الإعلام، حتى تصبح قضية رأي عام؛ ثم يتدخل السيد الرئيس والأب الرحيم بحكمته وحنكته وبُعد نظره لحل هذه المشكلة، كما حدث مثلا عندما كتبت تلميذة موضوعًا إنشائيًّا تنتقد فيه الأوضاع!!. كان ذلك هو الحال... دولة غابت فيها المؤسسات!! ولم يكن لها دور حقيقي في حياة الناس اللهم التكريس للحاكم والنظام القائم وفرض سيطرته وحمايته وضمان استمراره للحفاظ على مصالحهم ومكتسباتهم والتستر على فسادهم.!!. وصدق الله القائل في كتابه العزيز: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (الزخرف:54). ولا شك أنه مع زوال النظام البائد، ضاع الكثيرون من أصحاب المصالح والأجندات الخاصة، الذين نهبوا أموال الدولة وأراضيها، وفرضوا الضرائب على الشعب المسكين، وباعوا ممتلكات الدولة وأصولها، وأفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر على مدار أكثر من ثلاثة عقود.. إن ما يحدث في مصر الآن من تكاتف أصحاب المصالح، لإشعال الفتن في مصر؛ للعودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه، ما هو إلا محاولة مستميتة، للتستر على فسادهم، والتعتيم على جرائمهم بخلق حالة من الفوضى في البلاد حتى لا يلاحقوا جنائيًّا.. وقد غاب عن هؤلاء أن الله عز وجل مطلع عليهم ومحيط بكيدهم وتدبيرهم وصدق الله القائل: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف: 79-80). ولاشك أن أي عاقل يدرك الفرق بين حرية التعبير بطريقة سلمية، وبين تخريب المنشآت وحرق مؤسسات الدولة والمساجد والاعتداء على رجال الأمن ومهاجمتهم وكأنهم أعداء للوطن...!!. التاريخ يؤكد أن الثورات لا تقلد ولا تستنسخ وهناك فرق كبير بين ما يحدث في مصر الآن وما حدث أثناء ثورة 25 يناير 2011م، التي أطاحت بنظام جثم على صدورنا ثلاثين عاما؟ وفي هذا الوقت الحرج من تاريخ مصرنا أصبحنا نسمع في مصر عما يسمى ب "سماسرة المظاهرات ومتعهدي الاعتصامات"، الذين يقومون باستئجار "أنفار" للقيام بالمظاهرات والاعتصامات، وأن هناك أيضا من يستغل فقر بعض المواطنين وجهلهم وبطالتهم وحاجتهم إلى المال، وينفقون عليهم جزءا مما تم نهبه من ثروات الوطن، وإغراء بعض هؤلاء البسطاء للقيام بأعمال العنف والتخريب والشغب!!. وهذه الروايات التي تتردد ليل نهار في الشارع المصري وأثبتتها بعض وسائل الإعلام النزيهة التي قامت بعمل استطلاعات وسط هؤلاء الثوار المزعومين، لتسجل اعتراضاتهم على الدستور ولتكشف عن حقيقة أن كثيرا من هؤلاء المعتصمين لم يقرؤا الدستور ولم يعرفوا عنه شيئا، بل إن كثيرا منهم لا يعلم القراءة ولا حتى الكتابة. فهل يستطيع أحد أن يعقد مقارنة بين ما حدث في ثورة 25 يناير 2011م وما يحث اليوم؟ هناك مشاهد كثيرة تسترعي انتباهنا في الشارع المصري تقول لنا إن مصر تتغير، ومن هذه المشاهد: ما نشرته مواقع الإنترنت عن زيارة السيدة الفاضلة "أم أحمد" زوجة السيد الرئيس محمد مرسي، لزوجة رئيس الوزراء بالدقي، وبصحبتها سيارة مكلفة بحراستها، ثم جاءت سيدة تقيم في نفس العقار، وأجبرت طاقم الحراسة على ترك المكان، حتى تتمكن من "ركن" سيارتها بجوار المنزل الذي تسكن فيه، وهددتهم جميعا بأنها سوف تتوجه إلى قسم الشرطة لتحرير محضر ضدهم ما لم يتركوا المكان؟!. تذكرت ذلك المشهد وما كان يحدث من غلق للميادين والشوارع، وتعطيل مصالح الناس وتذكرت معاناة المواطنين. فهذا طالب قد منعه الموكب من حضور امتحان نهاية العام، وهذه امرأة مريضة لم يتمكن رجال الإسعاف من الوصول إليها لنجدتها... وغير ذلك الكثير والكثير.. وتذكرت مشهد الرئيس مرسي وهو يعلن منذ اللحظات الأولى لتوليه سدة الحكم بأنه خادم للشعب، تلك الكلمات التي أعادت لكل مصري كرامته وعزته، ووضعت المفاهيم في إطارها الصحيح؛ فالرئيس خادم للشعب، وقائم على رعاية مصالحه، ومستأمنا على حماية ثروات شعبه ومقدرات وطنه، لا سيدا للشعب، مستبيحا لكرامته، ومتحكما في ثرواته، ومالكا لكل شيئ على أرضه يتصرف فيه كيفما يشاء.. وصدق رسوانا الكريم حين قال: (كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته). تذكرت ذلك المشهد وتداعت إلى ذهني صورة جمال مبارك الذي كان مرشحا لوراثة حكم مصر بعد أبيه، وقد وقف في المؤتمر العام للحزب الوطني الديمقراطي مرتديا ثوب أبيه، تملؤه الغطرسة والكبر وتعلو نبرته الزهو والغرور. إن كل هذه المشاهد ربما تبدو للبعض بسيطة، ولكنها لا يمكن أن تمر على ذاكرة المصريين مرور الكرام، دون أن يخرجوا منها بدروس مستفادة، ومنها أنه لم يعد في مصر مكان لفرعون جديد، وأن المصريين لن يقبلوا مهما حدث حكم ديكتاتور آخر؛ لأنهم تعلموا أن السلطة بلا محاسبة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]