الرسالة التي وجهها الرئيس الأميركي جورج بوش من ميدان الحرية في العاصمة الجورجية تيبليسي في العاشر من مايو الجاري، وصل صداها إلى عواصم أخرى في الشرق الأوسط من بينها القاهرة. لم يتطرق بوش إلى مصر تحديداً في خطابه الحماسي الذي ألقاه أمام آلاف احتشدوا في ذلك الميدان، بخلاف خطابه السابق عليه في لاتفيا في السادس من الشهر نفسه، عندما طالب بأن تكون الانتخابات الرئاسية المصرية تنافسية حقاً وتحت رقابة دولية. ولكنه في الميدان الذي انطلقت منه "الثورة الوردية"، التي أسقطت حكم الرئيس السابق إدوارد شيفرنادزة في نوفمبر 2003، أعطى هذه الثورة فضل السبق وبالتالي إلهام عملية الإصلاح الديمقراطي في العالم. وفي حديثه عن هذه العملية، توقف أمام الشرق الأوسط معتبراً أنها تساعد في تحقيق التحول الديمقراطي في هذه المنطقة. ولما كان "المحافظون الجدد" في واشنطن يعطون أولوية لمصر في هذا السياق، يصبح سهلاً الربط بين خطابي بوش في جورجيا ولاتفيا، خصوصاً بعد أن طلب الرئيس الأميركي من مصر في ثلاث خطب سابقة أن تقود التحول إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط مثلما قادت عملية الانتقال إلى السلام. ويعني ذلك أن مصر تحظى بأولوية متقدمة في "الأجندة" الأميركية في العام الجاري. فالأمر جدٌّ إذن لا هزل فيه على نحو يفرض إثارة السؤال المسكوت عنه حتى الآن، وطرحه في شكل مباشر، لأن إغفاله أو تغطيته لم يعد في مصلحة مصر ولا العرب بوجه عام. والسؤال هو: ماذا لو تصاعد الضغط الأميركي على مصر في هذا العام الذي قد يكون حاسماً في تحديد مسار نظامها السياسي؟ فهذا عام لم تعرف مصر مثله منذ عام 1954، الذي شهد حسم الصراع بشأن نظامها السياسي عقب ثورة 1952. فهو العام الذي سيشهد أول انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح، وبعدها مباشرة أكثر الانتخابات البرلمانية سخونة منذ انتخابات يناير 1950. وقد بدأ العام ساخناً يحمل بوادر تغيير في المعادلات السياسية الداخلية المستمرة منذ وقت طويل، ظهرت قوى جديدة مثل حركة "كفاية" عملت على تحريك الحياة السياسية عبر تنظيم تظاهرات أغرت "الإخوان المسلمين" بالنزول إلى الشارع والانتقال من التهدئة التي حرصوا عليها من قبل إلى التصعيد. وربما شجعهم على ذلك التغيير الذي يحدث في السياسة الأميركية باتجاه الضغط على نظام الحكم في مصر وإسقاط "الفيتو" على إمكان وصول حركات أصولية إلى السلطة في بلاد عربية ومسلمة. والمتوقع أن تزداد سخونة الوضع السياسي في الشهور القادمة. فإذا واكب ذلك ضغط أميركي مباشر، فقد يفتح الباب أمام سيناريو المجهول الذي يمثل أكبر خطر يمكن أن يتعرض له مجتمع تعود على الاستقرار والهدوء ولا يستطيع الحياة بدونهما. ولكن هل وصل الخلاف بين القاهرةوواشنطن إلى هذا المستوى بالفعل؟ كان رئيس الوزراء المصري د. أحمد نظيف, أكثر المسؤولين في القاهرة صراحة في الإجابة على هذا السؤال، وفق ما نُقل عنه في لقاء مطول مع رؤساء تحرير عدد من الصحف المصرية. وتصادف أن كان اللقاء في اليوم نفسه الذي وجه فيه بوش رسالته من تبليسي إلى الشرق الأوسط، فقد قال إن "العلاقات المصرية- الأميركية تمر بمرحلة ملتهبة، ولكن الأمر لا يشوبه سوء نية من أي من الطرفين". ولأن نظيف وصل إلى هذا التقدير لحجم الأزمة في العلاقات مع واشنطن عشية زيارته إليها في الأسبوع الماضي، أي في لحظة كان يعد فيها لهذه الزيارة، فالمفترض أن يكون تقديره أكثر دقة مما ورد على لسان مسؤولين مصريين آخرين حاولوا التهوين من شأن الخلاف مع الولاياتالمتحدة. وليس ثمة ما يدل على أن زيارة نظيف غيرت في الأمر شيئاً، بالرغم من الجهد الكبير الذي بذله لتوضيح قدرة مصر على قيادة منطقة الشرق الأوسط نحو الديمقراطية والإصلاح، ولكن حسب رؤيتها الوطنية وأجندتها الخاصة وليس وفق الرؤية الأميركية. وهنا يكمن جوهر الخلاف الذي يلهب العلاقات بين البلدين ويدفع إلى توقع ضغط أميركي مباشر على مصر في الشهور المقبلة، فلا خلاف بينهما على ضرورة الإصلاح والتحول الديمقراطي الذي تعتبره القيادة السياسية في مصر ضرورة ومصلحة وطنية. ولكن الخلاف، كل الخلاف، هو على معدلات الإصلاح والمدى الزمني الذي يمكن أن يستغرقه. وأخذ هذا الخلاف يزداد عمقاً ويمضي باتجاه تعارض بين ما يمكن أن نعتبره تباطؤاً مصرياً بدرجة أو بأخرى وتعجلاً أميركياً زائداً عن أي حد معقول. والمتغير، هنا، هو الموقف الذي تتخذه واشنطن الآن والفلسفة التي تقف وراءه. فالإدارة البطيئة لعملية الإصلاح في مصر ليست أمراً جديداً. ولم يكن هذا موضع خلاف مع واشنطن حتى وقت قريب، ولكن مع تغير الموقف الأميركي، ازداد الخلاف وما زال في ازدياد. فالسياسة الخارجية الأميركية تنزع إلى تغيير هذه المنطقة الآن وفوراً، بعد أن سعت إلى الحفاظ على استقرارها ودعمت هذا الاستقرار لفترة طويلة. ولذلك فهي تتحمل مسؤولية أساسية عن الجمود الذي يجعل التغيير السريع صعباً وخطراً ناهيك عن أن يكون فورياً في التوّ واللحظة. ولا يكفي النقد الذاتي الذي وجهه الرئيس بوش للسياسة الأميركية السابقة أكثر من مرة. فهذا النقد الذاتي ينطوي على اعتراف مباشر بأخطاء ارتكبتها السياسة الأميركية السابقة لم تميز بين الاستقرار والجمود. ولذلك فالمنطقي أن يكون تغيير هذه السياسة بطريقة حذرة ولا تؤدي إلى أخطاء جديدة. ولكن يبدو أن هذا الحذر لا موضع مؤثراً له في السياسة الأميركية الجديدة التي تنطلق من ثلاثة افتراضات رئيسة: أولها أن الجمود هو الوضع الأسوأ على الإطلاق في مصر وبعض الدول العربية الأخرى. وثانيها أن تحريك هذا الجمود صار ضرورياً حتى إذا أدى إلى قدر من الفوضى. وثالثها أن الفوضى في هذه الحال تكون بناءة لأنها تحرك وضعاً يمكن أن يؤدي إلى فوضى هدامة في حال استمراره سواء في شكله الحالي أو مع تزيينه بتغيير شكلي. وتأسيساً على ذلك يزداد الضغط الأميركي يوماً بعد آخر، ولكن من دون اتخاذ إجراءات تحمل طابعاً عدائياً. فالنمط الجديد الذي أتى به "المحافظون الجدد" للضغط على الدول الصديقة يجمع بين المحافظة على هذه الصداقة واتخاذ مواقف حادة في الوقت نفسه، إنه ضغط بوجه مبتسم ولكنه صارم في آن معاً. ومع ذلك لا يمكن لصانعي القرار الأميركي أن يكونوا متأكدين من الأثر الذي سيترتب على هذا الضغط، وخصوصاً في حال أدى إلى الفوضى التي يعتبرونها بناءة. وقد أقرت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بذلك في إجابتها على سؤال لصحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر يوم 23 أبريل الماضي عما إذا كانت متأكدة من النتائج المترتبة على الضغط من أجل الديمقراطية في العالم العربي؟ فقد أجابت بأنها "غير متأكدة، ولكن علينا أن نضع ثقتنا في المؤسسات النيابية الحقيقية". وهذه سياسة تعبر عن نفاد صبر أكثر مما تقوم على حسابات دقيقة للمستقبل، الأمر الذي يجعلها تعرف ما الذي لا تريده، ولكنها لا تعرف ماذا تريد تحديداً وكيف يمكن تحقيقه. ولذلك فهي تنطوي على خطر يزداد إذا أخذنا في الاعتبار أن الاتحاد الأوروبي بدأ يسلك الاتجاه نفسه، أو بعض مؤسساته على الأقل وخصوصاً البرلمان الأوروبي. إن خطراً بهذا الحجم يفرض على المهددين به عملاً جاداً من أجل تجنبه أو الحدّ من نتائجه السلبية. والعمل الجاد الوحيد الذي ينبغي القيام به الآن في مصر هو معالجة مسألة الإصلاح بجدية أكثر عبر اتخاذ خطوة حقيقية إلى الأمام والكفّ عن طريقة "خطوة للأمام... خطوة للوراء"، لأنها تفتح الباب للتدخل الأجنبي. فلم يعد ثمة وقت للمناورة في مجال الإصلاح. وحان وقت الإصلاح الحقيقي عبر إعلان برنامج زمني محدد وتفصيلي للتحول الديمقراطي والالتزام به لسحب ذرائع الضغط والتدخل الأجنبي.