عندما يكرر بعض المثقفين بإيمان منهم مقولات تلحّ على أن الديمقراطية تربية أولا وأساسا، وأن قيم حقوق الإنسان والحرية والكرامة البشرية هي نتاج نموذج قيمي وأطر ثقافية في الممارسة والتفكير، يبدي الكثيرون سأما وضيقا من هذه الأفكار، بل أنهم يعتبرونها في حالات غضبهم المشطّ عراقيل في مسيرة ثورتهم على الأوضاع البالية، وأن مردّديها يدافعون من حيث لا يدرون أو يدرون عن النخب السياسية الحاكمة التي من صالحها تأخير كل ما يتصل بالديمقراطية والإصلاح. ومن يمتلك شجاعة مواجهة الحقائق ذات مذاق العلقم، يكفيه أن يشاهد تلك الحوارات الساخنة التي تعرضها الفضائيات العربية، والتي تحاول أن تقدم المشاهد عربي الرأي ونقيضه، فإذا بالحوارات الساخنة تتحوّل إلى عراك شبيه بعراك المخمورين والحاقدين، فتنقلب إلى مناسبة للسباب والشتم وهتك الأعراض والثلب وتراشق التهم حقيقة وجزافا، وكلما وجد طرف نفسه في زنقة خانقة من المواجهة استعان بخطاب التخوين والعمالة، وقد يسأل الطرف المختلف معه: من أين دفعت ثمن قهوتك هذا الصّباح!؟ ويعكس هذا المشهد المتوتر المتواتر في فضائياتنا العربية، إلى أي مدى ان الديمقراطية تربية بالأساس، ولا سبيل لامتلاكها إلا بالاكتساب وبالتنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولذلك، فتلك السلبيات التي تتصف بها النخب السياسية العربية الحاكمة، هي ذاتها التي تشاركها فيها النخب السياسية المعارضة. فكلا النخبتين نتاج لنفس الثقافة ولنفس المؤسسات المؤطرة لسلوك الفرد، كالأسرة والمدرسة. ولعل الاشتراك في عملية التراشق بتهم التخوين والعمالة دليل على وجود حالة تلبس للقيم البالية، التي تفصلها مسافة سنوات ضوئية عن لغة الحوار البنّاء، وخوض المعركة السياسية من داخل الملفات السياسية ومظاهر التأزم، لا من خلال النبش في التواريخ الشخصية سواء للموالين أو للمعارضين. لذلك أيضا، فما يجري الآن من تحولات إيجابية تنبئ ببداية تشكل مجتمع مدني، تحركه نخب وجماعات ضغط وبدائل، يجهضه المستوى المتدني الذي تسلكه بعض النخب السياسية العربية الحاكمة، وأيضا النخب المعارضة لها.. والغريب في الأمر أن أغلب المواقف الحاكمة أو المعارضة التي نشاهدها اليوم، تلف وتدور حول جوهر الحوار الرئيسي، وبدلا من الحديث عن الإصلاح الذي يمثل بيت القصيد، نرى بعض الأنظمة تلجأ إلى إقامة علاقة أمنية مع الحركات الداعية للإصلاح، والمتبنّية لمبادئ سياسية معينة، واضحة وصريحة. ولعل ما يحدث في جمهورية مصر العربية منذ فترة، يعكس شيئا مما نقوله، خصوصا وأن مصر التي اختارت دوما أن تكون الرائدة والقلب النابض للأمة العربية، تستشعر برغبة صامتة في التنازل عن دور الريادة في مجال الإصلاح. ولذلك فالمتابع للحوار المتوتر والعالي النبرة السائد في المشهد السياسي المصري حاليا، يلحظ طغيان البعد الأمني للحوار الذي يظهر في طبيعة الأسئلة، وفي محاولات إطفاء الجاذبيّة الشعبية للمجموعات السياسية المتحركة. ومن الأسئلة ذات الثقافة الأمنية التي يلقيها المعارضون لحركة «كفاية» الرافعة لشعار: «لا للتمديد، لا للتوريث»، هي من أين يموّلون أنشطتهم السياسيّة، ومن أين يدفعون أموال اللافتات التي يرفعونها أثناء تظاهراتهم السلمية! ونفس «الحدوثة» تثار مع «جبهة إنقاذ مصر» التي تقول إنها تركز على ملف حقوق الإنسان في مصر، وإنها ستكثف جهودها لمنع انتخاب الرئيس مبارك لفترة رئاسية خامسة. ولكن، وعوضا عن فهم أطروحات هذه الحركات وغيرها في البلدان العربية، تجدنا نستهلك الجهد السياسي في عمليات التخوين والعمالة والإشارات الصريحة لمصادر التمويل الأجنبي المادي. وهنا لا بد من طرح مجموعة من الأسئلة المقابلة للأسئلة الأمنية: لماذا كلما ظهر معارض بيننا إلا وانهالت عليه تهم الخيانة والعمالة وجرّدناه من بعده الأخلاقي؟ لماذا يكون تشويه السمعة وهتك الأعراض فاتورة كل من تساوره نفسه للقيام بدور سياسي، وممارسة حقه في النقد، وتقديم البديل لمجتمعه؟ ومتى سنعي بأن المعارضة ليست تهمة، وأن مناهضة النخب السياسية الحاكمة ليست جريمة يحاكم عليها القانون؟ وإن كانت هذه الأسئلة منحازة كما يبدو للدفاع عن المعارضين في البلدان العربية، فإنها مفتوحة في نفس الوقت على ملاحظات أخرى تخص المعارضة بشكل عام، وهي، ان المغالاة في إظهار فشل الأنظمة الحاكمة في إشباع توقعات الشعوب العربية، تفتقد إلى النسبية وإلى الموضوعية، وأحيانا إلى النزاهة في الاعتراف بمكاسب اجتماعية وتعليمية وعمرانية مهمة، حققتها الدول العربية منذ الخمسينيات إلى الآن. إن الدعوة إلى حقوق الإنسان والحرية والإصلاح، ليست مطلبا خاصا بالمنتمين إلى الأحزاب والحركات المعارضة، ولذلك فمن الخطأ الوقوع في وهم امتلاك الحقيقة، فساعتها لا فرق بين العقل السياسي الحاكم وبين العقل السياسي المعارض. فمن بين ما تعنيه الديمقراطية احترام الاختيارات الأخرى، فليس كل من اختار الموالاة للنظام الحاكم يعتبر متواطئا ومرتزقا، تماما كما أنّ ليس كل من اختار المعارضة هو عميل لقوى أجنبية متآمرة وخائن لأمته! إن إدراك هذه التفاصيل مهم جدا كي نحقق الحد الأدنى من الشفافية، وكلما وجد طرف ما خياراته محترمة من الطرف الآخر، كلما كانت آفاق الحوار أكثر رحابة وجدية وتجسيدا للحرية وللديمقراطية، ولذلك فالتعاطي مع المعارضة كبديل سياسي، أكثر نضجا من مواصلة اعتبارها تشويشا سياسيّا أو تمرّدا على السلطة، فيما يجعل خطاب التخوين والعمالة الأسوار بين الموالين والمعارضين شاهقة والطرق بينهما مسدودة، والنتيجة التي تظهر في الأخير هي أننا أصحاب ثقافة ثلب وهتك للأعراض. وأخيرا، وللأسف، فهكذا واقع يحوّل الشعوب إلى مجرد مشاهد فضولي، استوقفته معركة في الشارع، في حين أن المطلوب هو تحوّل هذه الشعوب إلى فاعل معني بمصيره، وذلك من خلال جعله يعيش حوارا جدّيا حول خبزه الذي يزداد قلة يوما بعد يوم، وحول البطالة التي أشبعت نومه كوابيسا، وحول صوته المقموع، وكرامته المهددة بالهدر كيفما اتفق.