قبل يومين من وصول الرئيس المصرى محمد مرسى إلى برلين نشرت صحيفة "فرانكفورت الجمينة" الرسمية تقريرًا منقولًا عن دوائر الأجهزة الأمنية الألمانية نشرته الصحيفة يوم الإثنين تحت عنوان "الجهاديون فى القاهرة" تشتكى فيه السلطات الأمنية الألمانية من عدم استجابة المخابرات المصرية للمطالب الألمانية بعدم إيواء رموز من التيار السلفى الألمانى فى مصر، والذى يأتون إلى مصر تحت غطاء تعلم اللغة العربية، ويتمركزون فى المدن ذات التوجه السلفى مثل أحياء بعينها فى مدينة الإسكندرية، ويقول التقرير إن المخابرات المصرية مازالت فى مرحلة ترقب فيما يتعلق بهذه المسألة و بغيرها من مسائل التعاون الأمنى الخارجى انتظارًا للخط السياسى الذى سيتبلور بانتخاب مجلس النواب الجديد الذى ربما يقر تطبيق الشريعة، ويكون للتيار السلفى المصرى فيه شراكة حكومية قوية، ولذا دأبت المخابرات المصرية حتى الآن على التحفظ على المطالب الألمانية بإغلاق أبواب مصر فى وجه السلفيين الألمان ولاسيما أن التقرير يصف مصر بأنها غدت "نقطة التقاء وتحرك جديدة" للتيار السلفى الألمانى. وعلى الرغم من أن الرئيس مرسى إنما يتوجه إلى برلين بملفات أهم ما فيها الملف المالى فيما يتعلق بإعادة جدولة الديون المصرية، ومصير معونات التنمية وبملف الاقتصاد فى محاولة لجذب استثمارات ألمانية إلى مصر والحفاظ على الاستثمارات الموجودة، فإن ملف الدين سوف يفرض نفسه على أجندة محادثات الرئيس مع المستشارة الألمانية ميركيل على محورين: المحور الأول هو وقف الدعم المصرى للتيار السلفى الألمانى الذى تعتبره ألمانيا تهديدًا لكيان الدولة العلمانية المتعددة الأديان، وكان التيار السلفى والذى يمثله فى ألمانيا مواطنون ألمان من أصول ألمانية اهتدوا إلى الإسلام قد لفت الانتباه إليه فى ربوع جمهورية ألمانيا الاتحادية من خلال حملته التى قام بها تحت شعار "اقرأ"، والذى قام خلالها بتوزيع أكثر من خمسين ألف نسخة من نسخ القرآن الكريم المترجم إلى اللغة الألمانية، كما أن التيار السلفى الألمانى ذات نشاط بارز فى المجاهرة بدعوة المواطنين الألمان إلى الإسلام، ومن أبرز جمعيات التيار السلفى جمعية "دعوة إلى الجنة"، وجمعية "ملة إبراهيم"، والأخيرة ذات نشاط فى كل من ألمانيا والنمسا، وهو ما يمثل خطرًا من وجهة النظر الألمانية "لأسلمة الدولة الألمانية"، وتفريغها من أسسها العلمانية التى تعتبرها ألمانيا ثمرة من ثمار التنوير التى وصلت إليها الدولة بعد صراع استمر مئات السنين بين الدولة و الكنيسة. كما تشارك ألمانيا دولة إسرائيل فى الحاجة الملحة فى إنهاء حالة ما تسميه بالفراغ الأمنى فى سيناء حتى لا تقع سيناء فريسة للتطرف الدينى اللامحسوب وتبقى فى عيون صانع القرار المصري. أما المحور الثانى الذى من المقرر أن تتعرض له محادثات ميركيل ومرسى هو التوجه الجديد للدولة المصرية ذات الحكم الإسلامى على نحو تبقى مصر شريكًا محسوبًا لا يفرض مفاجآت على المجتمع الدولي، لقد اكتفت ألمانيا بالقول أنها "نما إلى علمها" فوز الأحزاب الإسلامية فى كافة الاستحقاقات التى جرت حتى الآن من انتخابات البرلمان السابق وانتخابات الرئاسة واستفتاء الدستور، ولكنها تبقى فى مرحلة ترقب، مما ستسفر عنه انتخابات مجلس النواب القادم من كيانات سياسية هى التى سوف تتولى التشريع، وتعطى لمصر وجهها الحقيقى الدينى والسياسى والتشريعي، لقد نظرت برلين إلى تصريحات الرئيس مرسى فى أول حوار له مع صحيفة ألمانية بأنه "لا يسعى إلى دولة دينية" على أنه نوع من التسكين المؤقت الذى لا يكفيها، إذ أن علم اليقين بالنسبة لبرلين يبقى فى التشكيلة الفعلية لمجلس النواب القادم.. إن الموقف المثالى الذى تسعى إليه ألمانيا هو تسخير الدين ليخضع لسلطات دولة القانون المحايدة وليس تسخير الدولة لطرح الدين، ومن الطبيعى أن يكون موقف ألمانيا هكذا بعد عقود من التطور التاريخى للدولة الألمانية والدولة الأوروبية حينما كانت الكنيسة هى التى يخرج الحاكم من صفوفها، ومازال الأساقفة فى ألمانيا يسكنون حتى اليوم القصور، ولا يتحركون إلا فى سيارات ليموزين فارهة فاخرة مثل تلك التى يتحرك فيها الوزراء، ولكن العودة إلى حكم الكنيسة للدولة هو خط أحمر غليظ فى الوعى الألمانى، ولذا فقد قررت الحكومة الألمانية منذ أكثر من أربع سنوات تدريس الدين الإسلامى فى أكثر من أربع جامعات ألمانية لتخريج أئمة ألمان ومدرسين دين ألمان يتبنون أولوية الدولة العلمانية المدنية، ويتبنون الدفاع عن الفصل بين الدين و الدولة، ويتصدون للمد السلفى الجديد فى ألمانيا. ومن أبرز علامات تلك الدولة العلمانية أن رأس الدولة الألمانية اليوم هم من أتباع المذهب البروتستانتى الأقرب إلى العلمانية: فرئيس ألمانيا الاتحادية كان يعمل من قبل قسيسًا بروتستانتيا، أما المستشارة ميركيل فهى ابنة قسيس بروتستانتى أيضًا وترأس اليوم الحزب المسيحى الديمقراطى الذى أسسه بعد الحرب العلمية الثانية قساوسة كاثوليك وكانت اجتماعته فى البداية تحت أسقف الكنائس الكاثوليكية. إن الحاكم الألمانى لم يعد يعنيه الدين فى شىء، بغض النظر عن اسم هذا الدين، ولا يعادى دين من الأديان وإنما الذى يعنيه هو دولة تتمتع بالاستقرار والسلام الداخلى، ويرى أن الدولة العلمانية المدنية التى ليس فيها لرجال دين من الأديان الكلمة العليا هى أفضل صيغة أثبتها التاريخ تصلح لضمان الاستقرار والسلام الداخلى. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]