وقع بين يدي مقال يثبت كاتبه تأثير القرآن الإعجازي على مرضى القلب ومساهمته في استقرار أدائه، وانتظام حركته، ويستعين الكاتب لإثبات فرضيته بدراسة فنلندية أجراها الباحث... من جامعة.... مقال آخر مشابه وقع بين يدي عن تجربة لعالم ياباني أفادت أنه عندما تعرضت بلورات الماء للبسملة عن طريق القراءة أحدثت فيه تأثيرًا عجيبًا وكونت بلورات فائقة الجمال في تشكيل الماء، وتجربة ثالثة تتحدث عن تأثير القرآن فى غير الناطقين بالعربية، وقدرتهم على تمييزه دون سائر الكلام لما يتميز به من نظم وموسيقى خاصة!!.. هناك ملاحظة مبدئية أود تسجيلها وهي أن هذه البحوث التي تمثل موضةً رائجةً هذه الأيام ونسارع إلى نشرها لأننا نرى فيها البرهان الساطع والحجة البالغة على صحة ديننا هي بحوث –في حال صحت علميًا- قام بها أجانب، وصار يكفي أن تؤلف اسم عالم غربي وجامعة غربية تنسب إليهما هذا البحث لتضفي مصداقيةً عليه، ولهذا دلالة مؤسفة على عقدة النقص التي تعترينا حتى بتنا نتسول شهادة الآخرين لنثق بديننا، وهذا يدل أيضًا على أن إعجابنا بهذه البحوث يأتي في سياق آلية تعويضية للفراغ الحضاري الذي نعيشه وعجزنا عن تقديم مساهمة حضارية في عالم اليوم. بعد هذه الملاحظة المبدئية نطرح السؤال: هل فعلًا يؤثر القرآن فينا وفي الأشياء بطريقة خارقة كونه كتاب الله المعجز؟؟ لا أميل إلى منطق الثنائيات الصارمة والتصنيفات الحدية لذا لا أنفي مطلقًا كل ما تذكره هذه المقالات وهي لن تخلو من الصحة، ونحن نعلم أن للقرآن نظمه ونسقه المتميز وموسيقاه الجمالية الجذابة. لكن في التوجه العام فإن محاولة إثبات تأثير القرآن إعجازيًا في حياتنا دون بذل جهد، ودون اعتبار للاختيار الإنساني بالإيمان أو الكفر هي مخالفة لمنهج القرآن ذاته.. فالقرآن في مجمله يقرر أن الاستفادة منه متعلقة بالاستعداد النفسي والجهد البشري، وأنها لا تتحقق بطريقة آلية كما يتحقق الدفء والضياء بمجرد طلوع الشمس ونحن مستلقون لا نبذل أي جهد.. القرآن يؤكد في عشرات المواضع، حقيقة أن الانتفاع بالقرآن متوقف على الاختيار الإنساني، بل يذهب أبعد من ذلك بتقرير أن كثيرًا من الناس سيزيدهم القرآن خسرانًا وضلالًا، مثل قوله "ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا"، وقوله "وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، وهناك من اتخذ قرارًا مسبقًا بسد منافذ فهمه فهذا لن يستفيد من القرآن شيئًا "وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا"، بل إن القرآن بتعبير القرآن ذاته هو عمىً على هذا الفريق من الناس "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"، والانتفاع بالقرآن لا يكون إلا بشرط الاستعداد المسبق "هدىً للمتقين"، ونحو ذلك من عشرات الآيات التي تخرج القرآن من فكرة التأثير الآلي إلى التأثير المشروط بالاستعداد والجهد البشري.. الحديث بأن القرآن يؤثر بطريقة خارقة عدا أنه يخالف منهج القرآن ذاته فهو أيضاً غير علمي ويضعنا في حرج كبير إذ يكفي أن يأتي معاند واحد ويتحدانا بأنه لن يتأثر بآيات القرآن لينسف أساس نظريتنا نسفًا فنقلب أكفنا على ما أنفقنا فيها وهي خاوية على عروشها، كما أن هذه الطريقة غير مجدية حضاريًا لأنها تعطل الدور الحقيقي للقرآن في استثارة العقول والقلوب للتفكر والتدبر ودفعنا للعمل، وتعزز فينا السلبية والاتكالية، وهو ما نراه واقعًا في حياة أكثر المسلمين الذين غاب عنهم شرط التدبر للاستفادة من القرآن لذا اكتفوا من القرآن بجمال الصوت ومخارج الحروف، فيشغل أحدهم صوت قارئ جميل في البيت أو السيارة لجلب البركة والراحة ثم لا يمنعه صوت القرآن من الثرثرة والانصراف إلى شئون أخرى، لأنه يظن أن القرآن سيؤثر بطريقة آلية دون استماع وإنصات، ويخرج أحدهم من البيت تاركًا آيات القرآن تباركه في غيبته!! إن أثر القرآن لن يتحقق في حياتنا إلا حين نفتح قلوبنا وعقولنا لتلقي هدايته وما لم نحقق هذا الشرط فلن تنفع كل هذه البحوث والدراسات الصادقة منها والمزعومة في انتشالنا من وهدتنا الحضارية. والله المستعان.. [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]