نشطت حركة الاعتقالات السياسية في الآونة الأخيرة وامتدت من مصر حتى موريتانيا ومن سوريا حتى البحرين. وأعادت التوتر العالي للمجتمع العربي، وانقشعت معها الآمال بانفراج سياسي. هناك تصعيد وتأزيم شامل، دخلت معه المنطقة في دوامة جديدة من التوتر، مضيفاً مأزقاً آخر إلى متوالية المآزق والأزمات. النظام الأمريكي في ورطته العراقية بحاجة إلى من يمد له طوق النجاة، والنظام العربي في سباق مع الزمن لترسيخ قبضته عبر ترقيعات ديمقراطية نالت رضا لورا بوش، لكنها لم تفلح في انتزاع رضا الشارع العربي أو في تحقيق شيء ما من أشواقه التغييرية. فتصاعد التوتر بين أطراف غير متكافئة في المعادلة السياسية العربية؛ وسرعان ما خرجت السيوف اليعربية من أغمادها، لتزج بالآلاف من دعاة التغيير وأنصارهم على اتساع الطيف الإصلاحي في السجون، بدءاً من حركة “كفاية” الوليدة في مصر. فالقوانين التي تجرم العمل السياسي مازالت سارية المفعول في غير دولة عربية بالرغم من ضجيج الدمقرطة والإصلاح. في هذا السياق تصبح الإضاءة على قضية الاعتقال السياسي في المشهد السياسي العربي الراهن ضرورة ملحة. إن عالم الاعتقال هو بالضرورة عالم غير إنساني. وربما نجحت الناشطة السورية رزان زيتون في التعبير عن هذا العالم بقولها: “ترتسم في ذاكرة الصغار أن الذين يعملون في السياسة يسجنون في مكان بعيد، يزورهم أقاربهم في فترات متباعدة، ويحملون لهم طعاماً يسرق الحراس معظمه”. فإذا كانت الصور المتسربة من المعتقلات الأمريكية في العراق ومثيلاتها أثارت سخطاً عالمياً فإن ما يجري داخل المعتقلات العربية بحق السجناء السياسيين ليس بأقل بشاعة. هناك سمات عامة تسود السلوك الاعتقالي في المنطقة من مداهمات للبيوت وتفتيشها، وانتهاك حرماتها، وتحطيم موجوداتها، مروراً بإهانة جميع سكانها، وانتهاء باعتقال الموجودين، وتعذيبهم، رجالاً ونساء وأطفالاً، ضرباً وتعرية وربما اغتصاباً، خروجاً على كل المألوف الاجتماعي والقيمي، واستثارة لحفيظة المعتقل وإكراهه على الاعتراف، أو الإقرار بأمور ربما تكون ملفقة. في القواعد الشرعية “لا تزر وازرة وزر أخرى” أما في القواعد المتبعة في المعتقلات العربية فكل الأسرة وربما القبيلة والحي والبلدة تتحمل وزر أي من أبنائها؛ والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر. ونظراً إلى أن مرتكبي التعذيب يتمتعون بحماية قانون أمن الدولة ضد أية مساءلة قانونية؛ فقد أصبح التعذيب الجسدي أو النفسي أو كلاهما معا ممارسة طبيعية. وبالمقابل فإن العاملين في مجال حقوق الإنسان في معظم الدول العربية يتعرضون لمختلف أشكال التضييق من: رقابة وطرد من العمل، واعتقال إداري وسجن وتعذيب وإلى ما هنالك. وأما عن مسوغات الاعتقال فمعظم حالات الاعتقال العربية تتم بدعاوى أمنية حتى لا ينطبق عليها وصف الجريمة السياسية؛ مما يؤدي إلى معاملة المعتقلين كأشخاص لا حقوق لهم وتجريدهم من إنسانيتهم؛ كما جاء على لسان أحد المعتقلين قوله “لم أعد أشعر بإنسانيتي”. ولقد وصف ناشط في مجال حقوق الإنسان أحد المعتقلين بقوله: “أول ما تبادر لذهني لحظة رؤيته، أحدب نوتردام الشهير، كان ظهره مقوسا ومحدودبا بشكل كبير، وبعد اطلاعي على التقارير الطبية وسماعي قصته، تبين أنه أثناء تعرضه للتعذيب في بدايات اعتقاله، تهشمت فقرات من عموده الفقري تحت تأثير الضرب المبرح في منطقة الظهر، ولم تتم معالجتها فالتأمت على تشوهها”. تتوالى مشاهد وقصص العذاب في المعتقلات العربية، ولم يعد هناك ما يبرر المضي في عبثية الصمت الذليل إزاء معاناة الآلاف من المعتقلين السياسيين خاصة ونحن في خضم الضجيج الإعلامي حول الإصلاح ودعاواه وادعاءاته. إن أول أبجدية الإصلاح تبدأ بإنهاء سياسة الحبس والاعتقال على قاعدة اختلاف الرأي؛ كما تقتضي إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين المحتجزين من دون محاكمة؛ وترسيخ مبدأ سيادة القانون وصيانة الحريات العامة الأساسية. وإلا فإن معاناة المعتقلين السياسيين ستبقى جرحاً نازفاً يحول دون السلم الأهلي والوئام الوطني في كثير من المجتمعات العربية؛ ناهيك عن إضعاف مناعة الأمة في مواجهة التحديات التي تهدد كينونتها وصيرورتها.