في سياق ما نختاره من بين أهون الشرين ربما نجد أنفسنا مضطرين إلى استلهام النموذج الإيراني، ليس لأن الإسلاميين يخططون لذلك، فقد علمنا أنهم لا يعولون على تخطيطهم وتنظيرهم، ولكن لأنهم يعولون على استثمار تخبط ورعونة خصومهم الذين يفرضون على الإخوان والسلفيين أن يكونوا في دهاء وشراسة ملالي قم. ومن نماذج التخبط صيغة التحالف مع الفلول، فقد بدت الرعونة في أن البهاوات تمادوا دون أن يقفوا لتحديد ماهية الفلول، وظنوهم مجرد مجموعات من رجال الأعمال يمكن أن تغدق على الحراك المجابه للإسلاميين، ونسوا أن الفلول هم مركب متماسك من وحدات متناسقة تدخل فيها مؤسسات الدولة العميقة بما فيها جهاز أمن الدولة وتنظيمات البلطجية، يربطها شعور التمسك بالفرصة الأخيرة والتعلق بطوق النجاة، وهذه هي التركيبة التي ظهرت في يوم الاتحادية، فاحتوت داخلها شبابا من ذوي الرؤى السياسية الثورية، فكيف يمكن أن يفسر هذا الأسى والجزع (الثوري) لعزل وزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين؟ وقد روي عن الإسلاميين بسند متصل أنه خذل الرئيس مرسي يوم الاتحادية، وقد شوهد موقف الأجهزة الأمنية من حماية مقار الإخوان، بما يؤكد أن من تحالف مع الفلول قد استدرج إلى مكوناتهم الخفية وتشكيلاتهم العصابية. وهنا لا بد من طرح سؤال منصف: ما الذي يمكن أن يفكر فيه الطرف الآخر وقد رأى أجهزة الدولة تخذله وهو في السلطة وتتآمر مع فعاليات انقلابية ضده؟ بغريزة حب البقاء ودون تفكير أو تخطيط سنرى خيرت الشاطر يقول "تقارير وصلتنا" وأفادتنا، وعندما نرى الأجهزة الرقابية ترفع تقارير مضللة للرئيس مرسي نفسه فأي تقارير وصلت الشاطر. وما أشيع عن وصول أحد قيادات الأجهزة الاستخبارية في إيران إلى مكتب إرشاد الإخوان يدعو للتوقف والمراجعة، وربما يفسر بأنه تلويح بالأوراق الاحتياطية. النموذج الإيراني هو مجموعة من الملالي قادرة على احتواء العملية السياسية وكبح جماح اللعبة الديمقراطية والسيطرة على الموقف في حراك تداول السلطة، بصيغة ولاية الفقيه وبمساعدة أجهزة أمنية واستخبارية موازية، فالحرس الثوري الإيراني التابع للمرشد أقوى من الجيش الإيراني التابع لأي رئيس منتخب الحامي للنظام الجمهوري، الباسيج قوات شبه عسكرية تتكون من المتطوعين من المدنيين قد يصل عددها في وقت الحاجة إلى مليون. والحقيقة أن خصوم الإسلاميين يخطئون في تزايد الثرثرة عما يسمونه مليشيات الإخوان، إذ إن كل شيء في هذا الوضع السياسي الهش السائل يمكن أن يصطنع بالتراكم، وكثير مما ثبت وتأصل في إيران كان وليد التراكم، ولنتذكر أن الخميني نفسه لم يكن مرجعية بمواصفات قم. فرق كبير بين الحالة الإيرانية والحالة المصرية، فالمذهب الشيعي قبل بصيغة ولاية الفقيه التي خدمت مشروع الملالي السياسي ترقبا للمهدي المنتظر والإمامة عند الشيعة من الأصول، بخلاف السنة الذين لا يبنون على فكرة المهدي المنتظر والإمامة عندهم من الفروع. ولكن هذا لا يمنع من صعود نموذج شبيه، فقد رأينا التكرار في لبنان، والفارق أن ملالي إيران تصوغ اللعبة السياسية وتسيطر عليها، وفي لبنان تطلق اللعبة السياسية في صراع حر بينما السيد حسن نصر الله ذو العمامة السوداء ومعه أعوانه وجيشه واستخباراته الموازية يقدر على توجيه الصراع وإيقافه وقتما يشاء. استحدثت تقليعة للنماذج المقولبة من أنصاف المثقفين، إذ تروج مجموعات من محدثي السياسة كما هائلا من الشتائم والهجاء للإخوان ينتجه الفلول، وربما فرح بهذا الاتجاه المناوئ للإسلاميين، ولكن الاستفتاء على الدستور كشف هذه البدعة وهشاشتها وأنها ليس لها أي تأثير، فالنتيجة تقول إن كتلة الفلول قد انتقلت من التصويت ب"نعم" في استفتاء مارس 2011 إلى التصويت ب"لا" في استفتاء ديسمبر 2012، بدليل أن "لا" كانت أكثر في المحافظات التي صوتت لشفيق في إعادة انتخابات الرئاسة في يونيو 2012. فلم يجد جديد بشأن التوازن والتعادلية السياسية، ولم يبق إلا أن تسوق هذه المجموعات على أنها مشروع انقلابي فلولي ليستخدمها الإسلاميون فزاعة للمجتمع ليضطروه إلى القبول بالنموذج الإيراني خوفا وهربا من النموذج الجزائري باختيار أهون الشرين. وهنا تحسم القسمة في المنطقة، الصهاينة يتعجلون الماشيح ونهاية التاريخ، وملالي إيران ينتظرون المهدي، وإسلاميو مصر ومن حولها لن يسلموها إلا لعيسى ابن مريم. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]