فاجأ الكاتب الصحفي إبراهيم سعده، رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير مؤسسة أخبار اليوم الصحفية بمصر، الجميع بتقديم استقالته من منصبه، في سابقة هي الأولي من نوعها، ولم يشأ ان ينصرف في هدوء، ولكنه آثار جدلا واسعا وصاخبا في الساحتين السياسية والصحفية. ولعل السابقة، والمفاجأة، كانتا السبب وراء اللغط الذي ساد في تفسير الاستقالة ودوافعها، الأمر الذي جعل هناك من تأخذهم الجلالة، ويقولون ان الفئران بدأت تهرب من السفينة، لاستشعارها أنها غارقة لا محالة!. المقصود بالسفينة هنا، هو نظام الحكم، الذي تصور البعض انه أوشك علي الانهيار، وعليه، فقد بدأت عملية الهروب الكبير، باستقالة سعده، وسيتبعه حتما كثيرون من سدنة السلطة الحاكمة في المحروسة. وهناك من ذهب به خياله الخصيبالي ان الرجل ظن انه راحل، فقرر ان يحول نفسه الي زعيم! والذين أخذوا هذا المنحي معذورون، ذلك لأن قاموسنا لا يعلم الاستقالة، وان كان يعرف الإقالة، ولم يحدث في تاريخنا السياسي في النصف قرن الأخير ان اقدم مسؤول علي هذا التصرف، ولعل الوزير الوحيد الذي استقال كان هو المرحوم حلمي مراد، وزير التعليم الذي قدم استقالته في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وفي الواقع انه فعلها مدفوعا بأمر من ناصر، لأن الوزير كان له رأي في إحدي القضايا لم يكن علي هوي الزعيم الملهم، فاستنكر موقفه، وأوحي له بالاستقالة، ففعلها!. ولهذا، فإن الذين لتوا وفتوا وهم يتحدثون عن أسباب استقالة إبراهيم سعدة لهم عذرهم، حتي وان اشتطوا في التفسير، وقالوا كلاما اذا فكرت فيه اكتشفت انك أمام نكتة، فقد يكون النظام مضطربا، ومهزوزا، ومأزوما، لكنه ليس علي وشك الغرق، بشكل يدفع واحدا من سدنته الي ان يقفز منه فارا بجلده، باحثا عن جبل يعصمه من الموت، فضلا عن ان الذين ذهبوا الي ان ما جري هو حركة فتاكة، من واحد رأي انه منصرف رغم أنفه، فقرر ان يأخذها من قصيرها، ويعيش في دور الزعيم، ربما لا يسترعي انتباههم ان المناصب الصحفية الكبري حلوة خضرة، والإنسان دائما وأبدا يعيش بالأمل، والنظام الذي تركهم في مناصبهم بالمخالفة للقانون عدة سنوات، ليس من المنطقي ان يتركهم، لاسيما وانه معروف بعدم قابليته للتغيير، ولاسيما ايضا وأننا قادمون علي انتخابات نقيب الصحفيين خلال شهرين، ومن واجب السلطة أن تسترد المقعد الذي فشلت في الاحتفاظ به واستحوذ عليه المرشح المستقل جلال عارف، والجميع يعلمون ان الوحيد الذي لديه القدرة هو إبراهيم نافع رئيس مؤسسة الأهرام، وإذا كان نجاحه مضمونا وهو في منصبه، فإنه لن يكون كذلك وهو خارجه، وإذا كانت الضرورة تحتم بقاء نافع في الأهرام بالمخالفة للقانون، فلا معني للاندفاع باستبعاد الآخرين، خشية الاتهام بالخروج عليه!. هذا من ناحية، ومن ناحية أخري، فإن النظام مقبل علي انتخابات الرئاسة، وكذلك علي الانتخابات البرلمانية، ونظرا لأن شعاره في الحياة ان من نعرفه أفضل مما لانعرفه، وهو المنطق الذي حكم تصرفاته علي مدي ربع قرن، وأوقف عجلة التغيير، فإن بقاء هؤلاء هو أفضل من الاستغناء عن خدماتهم، والإتيان برؤساء للمؤسسات تحت التمرين ، في مرحلة دقيقة لا تحتمل المجازفة، أو المخاطرة، ومع عقليات تري ان استمرار الكل في مكانه هو الاستقرار المنشود!. هناك من داخل النظام من يسعون إلي تغيير هؤلاء، لأسباب سنذكرها بعد قليل، لكن وجود ما سقناه من حجج يرجح كفة بقاء الحال علي ما هو عليه، وبالتالي فإنه ما دام احتمال الاستمرار قائم، ولو الي حين، فإن الاعتصام بحبال الأمل، لا تجعل المرء يندفع في حركة رعناء الي الانتحار، وخسارة الهلمة، ومعلوم ان إبراهيم سعده من الذين استمتعوا بالمنصب الصحفي، واستمتع بتصرفه في المؤسسة تصرف المالك فيما يملك، بل انه عاد بنا الي عصر الإقطاع، فكل الذين اختلف معهم طردهم، وهدم تقاليد المؤسسة، وركلها بقدميه، لدرجة انه استقدم سكرتيرة لأحد صغار كبار المسؤولين وعينها صحفية، وإذا كان هذا أمرا من تكراره أصبح طبيعيا، فكل سكرتارية السادة رؤساء الإقطاعيات الصحفية، حصلوا والحمد لله علي الصفة الصحفية، فإن ما فعله المذكور، يتجاوز مسألة منح الصفة، فقد رفعها، وأورثها المؤسسة، ليس من بعده، ولكن في حضوره أيضا، وهو أمر سمحت به أسوأ ملكية عرفتها الصحافة المصرية عبر تاريخها الطويل، فالصحافة القومية يملكها الشعب ويديرها مجلس الشوري، وهذا من الناحية القانونية، لكن من الناحية الواقعية فإنها مملوكة لرؤسائها!. وقد حدث منذ سنوات، ان تقدم مجموعة من الزملاء بأخبار اليوم ببلاغ الي النائب العام السابق ضد إبراهيم سعده في وقائع إهدار مال المؤسسة، صحيح انه تم حفظه لكن المبلغين اعتبروا الحفظ قرارا سياسيا، وقد قام سعده بتشريد الذين أقدموا علي هذه الفعلة، وليس هذا هو الموضوع، لأنني أري أن الوقائع لو صحت لشاب لهولها الغراب. ومهما يكن الأمر، فالشاهد ان سعده كان يرفل في نعيم أخبار اليوم المقيم، ومن يكن هذا دأبه فإنه لا يضحي بسهولة بالجاه والمال والسلطان، ويرتكب نزوة مراهقة، مع انه تجاوز سن المراهقة منذ قديم الأزل!. فما الذي جري وجعل إبراهيم سعده يقدم استقالته منشورة علي الصفحة الأولي من أخبار اليوم الصادرة في هذا الأسبوع؟. انها محاولة للحفاظ علي البقية الباقية من كرامة، وقد يجد البعض متعة في نهش لحم الرجل بعد ان تخلي عن جواده، لكن الحق أحق ان يتبع، فالعدل الذي هو أقرب للتقوي، هو الذي يدفعنا الي إنصافه، فإبراهيم سعده، ليس هو سمير رجب. فسعده ومكرم محمد أحمد رئيس مؤسسة دار الهلال يختلفان عن غيرهما من رؤساء تحرير الصحف القومية، فهم لا يهللان للسلطة عمال علي بطال، ربما لأنهما من الناحية المهنية صحفيان لا يشق لهما غبار، وهما عملة نادرة وسط أقرانهما من رؤساء المؤسسات الصحفية القومية، او الحكومية.. لا فرق!. ابراهيم سعده يذكر له الناس بعض المقالات التي تعجبوا ان يكتبها صحفي يرأس صحيفة حكومية، فقد سبق له ان كتب مقالا ضد صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب، ورئيس الجمهورية المؤقت عقب رحيل الرئيس السادات، حمل عنوان: الرجل المهزوز ، وفقد علي آثره منصبه كرئيس لصحيفة الحزب الحاكم، كما انه هاجم أجهزة الأمن عقب انتفاضة جنود الأمن المركزي، وسلخ بقلمه وزير الصحة السابق، ورئيس مجلس الشعب، وكانت مقالاته من هذه النوعية تصبح حديث الناس لفترة طويلة!. والذي جري مؤخرا انه شعر بالإهانة، فألقي بقنبلته في وجه الجميع، فأصابتهم في مقتل، ولم يفرق بين وزير الإعلام أنس الفقي، وصفوت الشريف رئيس مجلس الشوري، ولجنة السياسات التي يرأسها جمال مبارك!. أنس يتصرف علي انه صاحب قرار ويعد قوائم بأسماء الورثة، بالتأكيد ليس بصفته الوظيفية، فلا سلطان له علي الصحافة، ولكن بوصفه مقربا من آل البيت. أما لجنة السياسات وصفوت الشريف، فكل منهما له في مدح النبي غرام!. لجنة السياسات تود ان تأتي بخلق جديد يتولون هذه المناصب، أفضل من الناحية النفسية في التعامل معهم من الذين وعي رئيس اللجنة علي ظهر الدنيا، فوجدهم في مواقعهم، أما صفوت الشريف فحكايته حكاية، وان شئت فقل هو أس البلاء، والسبب وراء طفحان الكيل!. فمنذ سنوات استيقظ النظام الحاكم في مصر فجأة ليجد ان إبراهيم نافع رئيس مؤسسة الأهرام قد تجاوز الستين من عمره، ولم يكن هذا في حسبان القوم، وعليه فقد تركوه في موقعه، وعندما قرروا ان يتداركوا المشكلة كان السهم قد نفذ، حيث تم تعديل القانون بالنص علي ان مجلس الشوري من حقه ان يمد لرؤساء المؤسسات الصحفية القومية سنة وراء الأخري حتي سن الخامسة والستين، وقد فوجئوا بعد هذا النص التفصيل انه لا ينطبق علي حالة نافع، فالقوانين لا تطبق بأثر رجعي، مالم تنص علي ذلك!. وقد تم استخدام هذا النص مع الآخرين، وكانت النتيجة انهم استنفذوا سنوات المد، فظلوا في مواقعهم لأنهم تسببوا من ناحية في حرق العديد من الأجيال، ومن ناحية أخري فإن النظام لا يعرف بشكل كاف الجيل الذي حل عليه الدور!. وبتولي صفوت الشريف منصب رئيس مجلس الشوري، عمل كل ما في وسعه من اجل التغيير، ليس حبا فيه، ولكن حتي يستطيع الإطاحة بالقيادات الصحفية الحالية، لأنهم نافذون مثله، وبعضهم علاقته برأس الدولة أوثق من علاقته، وهو رأي انه حلمه القديم في السيطرة علي الصحافة لا يكون قبل الاطاحة بهؤلاء، واستجلاب شباب، كانوا أجنة في بطون أمهاتهم بينما سيادته وزيرا، من أصحاب النفوذ، ويظهر علي شاشات التلفزيون، حتي لا يدخل أحدهم دورة المياه ليقضي حاجته إلا بعد الرجوع الي مولاه ولي النعم!. وقد كان صفوت المذكور وراء تسريب الأخبار عن دنو الأجيال للقيادات الحالية، وقرب التغييرات، ونشرت الصحف، وأزعم انه كان المصدر الوحيد، وكان يريد ان يفرض التغيير بإحداث القلاقل بسبب هذه التسريبات، حتي تقر القيادة السياسية في النهاية انه لا مناص منه، وقد أصبح هذا مع النشر ضرورة، وتلقي القوم كلاما بأنهم راحلون فاستعدوا، ثم حدث ان تم التراجع فعادوا الي خنادقهم، وكانوا يخبرونهم في الصباح بالرحيل، وفي المساء يطالبونهم بالعودة الي ثكناتهم.. وهكذا!. وقد عبر مكرم محمد أحمد عن هذا بقوله: اننا نموت في اليوم مائة مرة، وان علي الدولة ان ترحمهم من هذا العذاب بتسريحهم بإحسان!. ولعل كرامة ابراهيم سعده لم تتحمل الإهانات المتكررة، فهو في النهاية إنسان من لحم ودم، فكتب استقالته ونشرها في مقال تاريخي، أكد، ضمن ما أكد، ان الدولة تعاني ارتباكا خطيرا، وان الصراع بين الاخوة الأعداء، هو السبب في كل هذا اللغط! . إنها أزمة سلطة شاخت في موقعها! -- صحيفة الراية القطرية في 22 -6 -2005