الطائفة الإنجيلية بمصر تنعى شهداء «مار إلياس» بدمشق    البورصة المصرية تستهل جلسة التعاملات بمؤشرات خضراء    بورصة الذهب تعاود التداول في اتجاه لتكبد المزيد من الخسائر    البنك المركزى: 29.4 مليار دولار تحويلات المصريين بالخارج خلال 10 أشهر    وزير الري يتابع حالة المنظومة المائية بمحافظتى بني سويف والمنيا خلال فترة أقصى الاحتياجات المائية    إسرائيل: هجوم إيراني ب15 صاروخا يتسبب بانقطاع الكهرباء في عدة مناطق    سر زيارة وزير خارجية إيران لروسيا.. هل تتدخل موسكو في الوقت الحرج؟    استشهاد 6 فلسطينيين وإصابة آخرين في قصف الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة    ديانج: جاهزون لمباراة بورتو ولتحقيق نتيجة إيجابية    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة بورتو بكأس العالم للأندية    الزمالك: الإعلان عن المدير الفني الجديد خلال الأسبوع الجارى    تحرير 551 مخالفة مرورية بسبب عدم ارتداء الخوذة    235 درجة توقعات القبول بتنسيق الثانوية العامة بالقاهرة 2025    المتهم بالتعدى على الطفل ياسين يصل للمحكمة لنظر جلسة الاستئناف على الحكم    ماجدة الرومي على موعد مع جمهورها بمهرجان موازين.. السبت المقبل    ممثل منظمة الصحة العالمية في مصر: مرض السرطان تحديًا صحيًا عالميًا جسيمًا    علاج 1632 مواطنا بقافلة طبية بقرية بالشرقية.. مجانا    «التضامن» تقر عقد التأسيس والنظام الداخلى لجمعية العلا التعاونية للخدمات الاجتماعية    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الاثنين    نائب وزير الخارجية الإيراني: سنواصل تخصيب اليورانيوم    رئيس جامعة قناة السويس يتابع امتحانات كلية الألسن    رئيس جامعة قناة السويس يشهد مؤتمر جمعية أبحاث الجهاز الهضمي بالإسماعيلية    ما هو موقف كوريا الشمالية من الهجوم الأمريكي على إيران    أسعار اللحوم الجملي والضاني اليوم الاثنين 23-6-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    الحبس والحرمان، عقوبة استخدام الطلبة اشتراك المترو بعد انتهاء العام الدراسي    حادث مروري مروع بأطفيح ينجو منه برلماني.. ومصرع السائق    أسعار النفط تقفز مع تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 23-6-2025 في محافظة قنا    في القاهرة والمحافظات.. مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 23 يونيو 2025    رغم تذبذب مستوي محمد هاني .. لماذا يرفض الأهلي تدعيم الجبهة اليمنى بالميركاتو الصيفي؟ اعرف السبب    وزير خارجية أمريكا: سعي إيران لإغلاق مضيق هرمز انتحارًا اقتصاديًا    حظك اليوم الإثنين 23 يونيو 2025 وتوقعات الأبراج    حكم الشرع في غش الطلاب بالامتحانات.. الأزهر يجيب    عقوبة الهاكر.. الحبس وغرامة 50 ألف جنيه وفقًا لقانون مكافحة الجرائم الإلكترونية    روبي بعد تصدر "ليه بيداري" الترند مجددًا: الجمهور بيحبها كأنها لسه نازلة امبارح!    «متقللش منه».. مشادة على الهواء بين جمال عبدالحميد وأحمد بلال بسبب ميدو (فيديو)    دونجا: أداء الأهلي في كأس العالم للأندية سيئ.. والفريق يلعب بطريقة غير واضحة مع ريبيرو    أحمد بلال: الزمالك تعاقد مع مدير رياضي لم يلعب كرة القدم من الأساس    ثورة «الأزهرى».. كواليس غضب الوزير من مشاهير الأئمة.. وضغوط من "جميع الاتجاهات" لإلغاء قرارات النقل.. الأوقاف تنهى عصر التوازنات وتستعيد سلطاتها فى ضبط الدعوة    فاتورة التصعيد الإسرائيلى- الإيرانى.. اشتعال أسعار الطاقة وارتباك الأسواق واهتزاز استقرار الاقتصاد العربى.. توقعات بزيادة التضخم مجددا فى الأسواق الناشئة وإضراب في سلاسل الإمداد    عصام السقا وسط الخيول العربية معلقا: سبحان من خلق    حقيقة تحديد 4 نوفمبر المقبل موعدا لافتتاح المتحف المصري الكبير    بالصور.. خطوبة نجل سامي العدل بحضور الأهل والأصدقاء    أمريكا تُحذر من مظاهرات مناهضة للولايات المتحدة في الخارج    بيلينجهام: من الصعب لعب كرة القدم في تلك الحرارة.. وأخضع لعملية جراحية بعد المونديال    الأزهر للفتوى يحذر من الغش في الامتحانات: المُعاونة على الإثم إثم وشراكة في الجريمة    ما حكم تسمية المولود باسم من أسماء الله الحسنى؟.. أمين الفتوى يجيب    الدكتور علي جمعة: المواطنة هي الصيغة الأكثر عدلًا في مجتمع متعدد العقائد    شديد الحرارة والعظمى في القاهرة 35.. حالة الطقس اليوم    مأساة في البحيرة.. طفلان خرجا للهروب من حرارة الصيف فعادا جثتين هامدتين    ما هي ردود فعل الدول العربية على الهجمات الأمريكية التي استهدفت منشآت نووية إيرانية؟    نيللي كريم تكشف عن مواصفات فتى أحلامها المستقبلي (فيديو)    السبكي: الأورام السرطانية "صداع في رأس" أي نظام صحي.. ومصر تعاملت معها بذكاء    «الشيوخ» ينتقد أوضاع كليات التربية.. ووزير التعليم العالى: لسنا بعيدين عن الموجود بالخارج    وشهد شاهد من أهله .. شفيق طلبَ وساطة تل أبيب لدى واشنطن لإعلان فوزه أمام الرئيس مرسي!    إصابة 13 شخصًا في انقلاب سيارة ميكروباص داخل أرض زراعية بمركز الصف    مندوب إيران بمجلس الأمن: أمريكا الوحيدة تاريخيا من استخدمت أسلحة نووية    18 يوليو.. هاني شاكر يلتقي جمهوره على مسرح البالون في حفل غنائي جديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا كلمة سواء مع نظام مبارك .. د. حسام عيسي
نشر في المصريون يوم 28 - 06 - 2005

د. أسامة الباز مثقف بارز، وهو أيضا سياسى مرموق، والكثيرون من أبناء الطبقة السياسية فى مصر، وأنا منهم، يحملون له تقديرا واحتراما كبيرين، وذلك رغم اختلاف الرؤى والتوجهات. ولذا فعندما يكتب د. أسامة الباز فى الشأن العام، خاصة إذا جاءت كلماته، فى هذه الفترة القلقة والمضطربة فى تاريخنا السياسى الحديث، تحمل دعوة إلى الطبقة السياسية المصرية فى مجملها، فلابد للمرء أن يأخذ هذه الدعوة بجدية كاملة، وأن يتعامل معها بما يليق بها وبصاحبها. ولقد قررت من ناحيتى أن أقبل دعوة د. الباز التى وجهها إلى الجميع من على صفحات أخبار اليوم. وبشكل أكثر تحديدا من صفحتها الأولى، وأن أتعامل مع خطابه بأكثر الأساليب لياقة، وهو إعمال سياق النقد فيه. والنقد الذى أعنيه هنا هو الذى يتجاوز ظاهر النص ويحاول أن يكشف عن مبناه ويطرح عليه الأسئلة التى أخفاها أو تجاهلها، ومن هنا يبدأ الحوار الحقيقى. وأول ما يلفت النظر فى دعوة د. الباز لكلمة سواء هو أنه قد وجه دعوته إلى الجميع.. أعنى إلى كل القوى السياسية فى المجتمع، النظام والمعارضة على وجه سواء.. فالدكتور الباز يتكلم باعتباره محايدا يقف فوق صراعات المجتمع يراقبها من بعيد، يرصد أخطارها.. ويحاول تقويمها. باختصار الخطاب يريد أن يوهمنا بأن صاحبه ليس جزءا من النظام.. بل هو ناقد لكل التجاوزات من هنا أو من هناك. أما الحقيقة فغير ذلك تماما.. فالدكتور الباز هو أحد أكبر مهندسى النظام القائم وهو أحد كهنته الكبار.. فهو بلا شك مهندس العلاقات المصرية الأمريكية، ومهندس العلاقات المصرية الإسرائيلية، وهو قبل ذلك ومن بعده مهندس عملية توريث الحكم الجارية. ولقد لعب الدكتور إلى جانب ذلك دور المعلم الجورو والجورو فى الميثولوجيا الهندوسية هو الكاهن المعلم الذى يأخذ بيد الملك ويعلمه ما خفى عليه من أمور الدين والدنيا.. وهو الذى يعد ولى العهد لوراثة الحكم. ولقد لعب د. الباز هذا الدور باقتدار مع الرئيس مبارك ولعبه أيضا مع السيد جمال مبارك فى البداية مع اختلاف بسيط، وهو أن د. الباز قد اقتصر فى مهمته على أمور الدنيا. إذا أخذنا كل هذه الحقائق فى الاعتبار، فسوف نقرأ خطاب د. الباز على نحو مخالف تماما لظاهر النص.. وبعبارة أخرى سوف يكشف الخطاب عن ذاته ويبدو لنا على حقيقته، فهو ليس دعوة من فوق الصراع لتهذيب الحوار وتنقيته من الشوائب، بل هو دعوة من داخل النظام لإنهاء الحوار، أى بعبارة أوضح دعوة إلى المعارضة لإنهاء معارضتها للنظام القائم. أما الملاحظة الثانية فهى أن خطاب الدكتور قد جاء بكامله مصبوغا بصبغة أخلاقية واضحة، بمعنى أن الدكتور قد نقل الحوار الدائر من ميدانه الطبيعى، وهو ميدان السياسة إلى ميدان الأخلاق.. وبدلا من طرح حججه السياسية فى مواجهة الحجج المطروحة على الساحة، إذ به يلغى السياسة بالكامل ويحل محلها قواعد الأخلاق بمصادرها الدينية والمجتمعية.. إلخ، وكأن الصراع الدائر فى مصر اليوم هو مجرد صراع حول الحلال والحرام واللائق وغير اللائق، وآداب الحوار. باختصار فإن ما فعله د. الباز هو القفز على كل القضايا السياسية التى طرحتها الطبقة السياسية المصرية والتى تشكل محور الصراع الدائر على الأرض المصرية، وهو صراع هائل ومصيرى.. وتحويل القضايا كلها إلى قضايا أخلاقية ولا علاقة لها على الإطلاق بما هو مطروح على الأرض الوطنية. وليس فى الأمر جديد على الإطلاق.. فمعظم الأنظمة السياسية على امتداد التاريخ الحديث قد فعلت الشيء نفسه، وهو إخفاء حقائق السياسة وراء شعارات الأخلاق أو الدين. فمنظرو الاستعمار الأوروبى اعتبروا الاستعمار مهمة أخلاقية لنشر حضارة الرجل الأبيض، والصهيونية اعتبرت القضاء على العرب فى فلسطين استكمالا لمهمة دينية، وتأكيدا لعديد من الأنظمة الإسلامية على ضرورة طاعة أولى الأمر هى إنهاء للسياسة باسم الواجب الأخلاقى أو الدينى. والهدف دائما واحد: نقل الحوار من ميدانه الطبيعى إلى مجال آخر لهدف واضح، هو وقف وإنهاء الحوار فى ميدان السياسة. ومرة أخرى فإن دعوة الباز هو دعوة هو قلب النظام لإنهاء السياسة والعودة إلى كلمة سواء، ولنعد الآن إلى خطاب الدكتور الباز لنعيد قراءته على ضوء الملاحظتين السابقتين، لنكشف ما أخفاه الخطاب.. ولنطرح عليه الأسئلة الحقيقية السياسية بدلا من الأسئلة الأخلاقية الزائفة.. وما أعنيه هنا بالزيف ليس المعنى الأخلاقى.. وأنا لا أعنى مطلقا أن صاحب الخطاب لديه رغبة فى خداع الآخرين وإخفاء الحقيقة، ولكن ما أعنيه أن الخطاب الأخلاقى هو خطاب أيديولوجى والأيديولوجية بطبعها تخفى أكثر مما تظهر.. وتلك هى وظيفتها. فى البداية يصف د. الباز مبادرة الرئيس مبارك بتعيير طريقة اختيار رئيس الدولة فى مصر بأنها كانت مفاجئة لكل الدوائر السياسية، وإنها خطوة شجاعة وخدمة تقدمية تهيئ للشعب كله أن يمارس لأول مرة فى تاريخه الحافل حقه فى المفاضلة بين من يتقدمون لقيادة العمل الوطنى. ومن حقنا هنا أن نطرح على هذا النص الأسئلة الآتية: إذا كان صحيحا أن تعديل الدستور هو خدمة تقدمية جاءت بمبادرة من الرئيس وتهيئ للشعب أن يمارس حقا من حقوقه الأساسية، فلم حرم الشعب من هذا الحق طوال أربعة وعشرين عاما؟ وإذا كان صحيحا أن التعديل جاء بمبادرة من الرئيس فلم أعلن الرئيس قبل مبادرته بأسبوعين بأن طلب تعديل الدستور هو كلام باطل ونقطة سوداء لن يسمح بها؟ ولم رفض الحزب الوطنى مناقشة هذا الأمر مع باقى الأحزاب وانتهى مع هذه الأحزاب نفسها إلى التوافق على تأجيل النظر فى هذا الأمر؟ والأمر فى الحقيقة لا يخرج عن أحد احتمالين. الأول: هو أن هذا التعديل قد جاء استجابة لضغوط خارجية وبالتحديد لضغوط أمريكية، وهذا هو الذى يفسر أن المبادرة جاءت بعد أسبوعين من الرفض العلنى للرئيس لأى تعديل فى الدستور، وهذا هو أقرب الاحتمالين إلى الحقيقة. والاحتمال الثاني: هو أن أيا من أجهزة النظام الحاكم وعلى رأسها الحزب الوطنى ولجنة السياسات لم تكن تدرى شيئا عن مفاجأة السيد الرئيس، وأن الرئيس قرر وحده فى غيبة الجميع أن يقدم للشعب خدمة تقدمية أى بعبارة أكثر وضوحا أن يعطيه منحة أو عطية، وهو ما يعنى أننا لسنا فى دولة مؤسسات بأى معنى من المعانى، وأن الرئيس هو النظام، والنظام هو الرئيس. ويبقى بعد ذلك أن نطرح على د. الباز تساؤلنا عن طبيعة هذا الحزب الذى هلل وأيد عندما رفض الرئيس لتعديل الدستور وأرغم المعارضة الحزبية على قبول تأجيل الحوار حول التعديل باعتبار أن الظروف السياسية الداخلية والخارجية لا تحتمل مثل هذا التعديل، وأطلق علينا كل منظريه الأيديولوجيين ليلقنونا صباحا ومساء من صباح الخير يا مصر إلى البيت بيتهم دروسا فى أهمية التحرك فى مجال الإصلاح السياسى بتؤدة، وفى ضرورة أن يسبق الإصلاح السياسى.. الإصلاح الاقتصادى والثقافى والتعليمى والأخلاقى أيضا ثم هلل نفس هذا الحزب وأيد عندما أعلن الرئيس عن خدمته التقدمية واصفا إياها بأنها نقلة نوعية تأخذنا إلى الديمقراطية الحقيقية، وهو ما يعنى أننا لم نكن نعيش قبلها أزهى عصور الديمقراطية، كما كان يحلو لأحد أقطاب النظام الحاكم وصف حياتنا السياسية. ثم مضى د. الباز على نفس طريق الطرح الأخلاقى للقضايا السياسية، حيث يلاحظ باستنكار شديد كيف أنه حتى بعد مبادرة الرئيس التقدمية استمر النقاش الحاد الصاخب حول الجوانب المختلفة لحياتنا السياسية والفكرية بنفس المعدلات التى كانت سائدة من قبل، بل إن الجميع يسلم بأن الحوار قد اتسم بمزيد من الإغراق فى التعصب للرأى والجمود فى المواقف، وذلك فى زمان حلت فيه النسبية فى التفكير والحركة محل المطلق، حيث أصبح من المتعذر بل من المستحيل أن يظن أحد أنه على صواب على طول الخط، وأن من يخالفه باطل تماما. واضح تماما أن د. الباز قد استدعى ما أسماه النسبية فى التفكير والحركة ليبين لنا مدى سخف الصراع السياسى الدائر على الأرض الوطنية، فمادامت المعارضة ليست على حق طوال الوقت، ومادام الحزب الوطنى ليس على خطأ طوال الوقت، فلم الحدة فى المواقف ولم الصوت العالى ولم الصراع أصلا.. ولم لا نأتى إلى كلمة سواء. وللأسف الشديد فإن د. الباز نفسه الذى استدعى النسبية فى بداية مقاله لإلغاء الصراع السياسى فى الداخل، بل لإلغاء السياسة ذاتها، إذ به يفاجئنا فى نهاية مقاله بقوله إن العالم قد تغير اليوم وتخلى عن النسبية والوسطية والاعتدال وأصبحت تسوده نزعات عنصرية ترفض الآخر وتهدده وتعتبر أن من ليس معها فهو عليها وذلك فى إشارة خفية إلى الرئيس بوش واليمين الأمريكى الجديد وانتهى د. الباز إلى ضرورة أن نتكاتف جميعا، ويعنى طبعا حكومة ومعارضة لمواجهة هذا الخطر الداهم القادم من الخارج والذى يهدد ديننا وثقافتنا وهويتنا. بعبارة أخرى فإن د. الباز الذى طالبنا باسم النسبية فى الفكر والعمل بإنهاء صراعاتنا السياسية.. يطالبنا باسم الخطر الداهم الجديد الذى لا يؤمن بالنسبية بأن نتوحد وننهى صراعاتنا الداخلية. المهم فى النهاية أن نكف عن الصخب السياسى المزعج سواء كانت الدنيا نسبية أو مطلقة. أما باقى مقال د. الباز والذى حمل دعوته إلى كلمة سواء فقد خصصه لموضوع واحد ذى نزعة أخلاقية واضحة وهو لغة الخطاب. إن أكثر ما يزعج د. الباز فيما يجرى على الأرض الوطنية هو لغة الخطاب التى تجاوزت كل الحدود التى وضعتها الأديان السماوية والشرائع الإنسانية وتعاليم الفقهاء والحكماء... إلخ، وانتهى د. الباز إلى وضع قواعد صارمة يجب أن يلتزم بها كل من يحاول التحدث فى أمور السياسة وإدارة شئون المدينة. وفى هذا الشأن يقول د. الباز: إن على كل من ينشغلون بالعمل العام أن ينأوا بأقلامهم وألسنتهم عن استخدام تعبيرات وصيغ جارحة ينسب فيها المرء إلى الآخر تهما ليس من حق أحد أن يوجهها لغيره مثل الخيانة والعمالة والفساد والنفاق، كما أن علينا أن نبتعد عن وصف ما لا يتطابق تماما مع تفكيرنا ورؤيتنا بأنه خطأ أو خطية... إلخ، أو تحول من دائرة الحلال إلى الحرام أو خروج على ما ارتضاه المجتمع وقبلته مؤسساته الشرعية من ضوابط للتفرقة بين المشروع والممنوع، إذ لا يمكن أن يدعى أحد منا أنه يحتكر معرفة الحقيقة المطلقة أو الحق فى التحدث باسمها... إلخ. وهكذا ترك د. الباز كل القضايا السياسية الهائلة المطروحة على الساحة ليتفرغ لما يراه هو القضية المحورية، وهو أسلوب الحوار ولغة الخطاب ووضع لنا حدودا للخطاب السياسى ومحاذير لا ينبغى تجاوزها. فإذا نظرنا بإمعان إلى القواعد والضوابط التى وضعها د. الباز فسوف نكتشف بسهولة تامة أنها ببساطة تلغى الحوار السياسى وتجرمه. فالدكتور الباز يرى أن كلمة مثل الفساد ينبغى إلغاؤها من قاموس الحوار السياسى، ومن حقى هنا أن أسأل د. الباز.. بكل الاحترام الذى أكنه لشخصه، وما الذى يبقى لنناقشه من أمور السياسة المصرية؟ إن أى مراقب للحياة المصرية فى الثلاثين سنة الأخيرة.. يستطيع أن يكتشف دون جهد كبير.. من مجرد متابعة الصحف الحكومية، والقضايا المنظورة أمام المحاكم، وتقارير المنظمات الدولية المعنية، وكتابات رجال الأعمال الذى كانت لهم تجربة فى مصر، إن الفساد قد تغلغل إلى مختلف جوانب حياتنا.. وأصبح أخطر ظاهرة تهدد مستقبل هذه الأمة. ونعنى بالفساد هنا: استخدام السلطة لصناعة الثروة. ومن حقى أن أسأل د. الباز هنا: ماذا تسمى وصول تجار المخدرات إلى مقاعد مجلس الشعب من خلال الحزب الوطنى الحاكم؟ وهل نجد مثيلا لهذه الظاهرة فى أية دولة من دول العالم؟ ماذا تسمى عمليات نهب أموال البنوك بواسطة أصدقاء ومؤيدى الحزب الوطنى؟ ماذا تسمى تلك الثروات الطائلة التى يصنعها أبناء بعض الوزراء من خلال العمل فى نفس المجالات المتصلة بنشاط الوزارات التى يهيمن عليها الآباء؟ ماذا تسمى قيام كبار مسئولى وزارة الزراعة بالسماح باستيراد مبيدات زراعية مسرطنة.. وإدانة القضاء الصريحة لوزير الزراعة السابق والمطالبة بمحاكمته؟ وهو ما لم يتم بالطبع حتى الآن. ماذا تسمى بيع وحدات القطاع العام لأصدقاء النظام بشروط تجعل من هذا البيع نوعا من النهب فى غيبة أية رقابة جادة؟ ماذا تسمى استيلاء بعض أصدقاء النظام على أراضى الدولة بأسعار رمزية وفى ظروف مشبوهة تماما فى غيبة أية رقابة؟ وأى تعبير يمكن أن نطلقه على مثل هذه الظواهر غير الفساد. إن المواجهة السياسية لظاهرة مثل الفساد تكون بفرض مزيد من الشفافية فى
الحياة السياسية والاقتصادية.. وليس بالالتفاف حولها من خلال قواعد العيب واللياقة فى الحديث.. وهذا ما تطالب به الحركة السياسية الشعبية. نريد أن نعرف كل شيء عن ثروات المسئولين وعن ثروات أبنائهم فى الداخل والخارج بتقارير دورية للذمة المالية تحت إشراف هيئة قضائية. هل هناك عيب فى ذلك.. وهل فى ذلك خروج على آداب الحديث وقواعد لغة الخطاب؟ باختصار الفساد قضية سياسية وليست قضية تتعلق بلغة الحوار وآدابه. فالفساد يجد ركيزته فى الحكم المطلق الذى تغيب فيه المؤسسات والرقابة الشعبية.. من ثم فلا يمكن طرح قضية الفساد دون طرح قضية النظام السياسى بأكمله. وبعبارة أخرى فإن قضية الفساد تطرح علينا بالضرورة قضية غياب الديمقراطية.. والطابع التسلطى للنظام.. وهيمنة أساليب القهر... ومن ثم غياب أية رقابة ممكنة للتنظيمات الشعبية. تلك هى القضية المحورية التى تطرحها الحركة الوطنية المصرية اليوم... وهى قضية القضايا بما تتطلبه من إنهاء الدولة التسلطية... وفتح الآفاق أمام اختيارات بديلة تشارك فى صنعها كل مدارس الفكر والعمل فى مصر دون استثناء أو استبعاد ابتداء من الليبراليين من ورثة فكر الطهطاوى إلى الإسلاميين من تلامذة عبده والأفغانى مرورا بالاشتراكيين والقوميين من مريدى النديم والكواكبى. تريد الحركة الوطنية إنهاء حالة الجمود القاتلة التى تغلق الآفاق أمام شبابنا وتدفعهم إلى اليأس من إمكانات المستقبل. نريد إعادة الجدلية السياسية والاجتماعية.. بحيث يعود للطبقة السياسية المصرية الغنية بأبنائها دورها فى بناء مشروع للنهضة يليق بمصر وتاريخها.. وهو أمر صعب للغاية ولا يجوز أن يتأخر كثيرا نظرا لحالة التردى السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى التى نعيش فيها. نريد مصرا جديدة ومختلفة.. لا يضرب فيها صحفى لأنه كتب بشجاعة وجهة نظره فى النظام، ولا يقتل فيها متهم مازال رهن التحقيق.. لأن أجهزة الأمن قررت أنها لا تريد محاكمة علنية. نريد مصرا جديدة لا يعلن فيها رئيس مجلس الشعب وهو أستاذ للقانون أن طريقة انتخاب رئيس الدولة قد أدمجت فى الدستور.. حتى لا يطعن عليها بعدم الدستورية.. وهو إعلان مذهل بأن المشرع يتحايل على القضاء. نريد مصرا جديدة لا يتهم فيها رئيس الجمهورية وبكل الاحترام الواجب لمكانه ومكانته حركة شعبية هائلة مثل كفاية بأنها تتلقى أموالا من الخارج، وهو ما يعنى اتهامها بالخيانة والعمالة.. وهما الكلمتان اللتان طالب د. أسامة بإلغائهما من قاموس الخطاب السياسى، وذلك لمجرد أن كفاية تطرح قضايا لا يرضى عنها سيادة الرئيس. نريد مصرا جديدة تفتح فيها صحافتها القومية لكل القوى السياسية دون استثناء.. بدلا من الوضع الحالى المزرى، حيث تمتلئ صحافتها بكتاب لا هم لهم منذ أكثر من خمسة عشر عاما، إلا كتابة المديح الفج والسخيف للرئيس ولأسرته. وهنا أود أن أسأل د. الباز لماذا لم تشمل قائمة ضوابط لغة الحوار شيئا يتعلق بهذه الظاهرة.. وأعنى المديح الفج للرئيس وأسرته بسبب وبدون سبب ولأشهر وسنين متواصلة.. هل هذا المديح الذى يصيبنا أحيانا بالغثيان مقبول.. ألا يشكل إهانة للعقل الذى يدافع عنه د. الباز فى مقاله.. أم أن العقل يقف عند أبواب الرئاسة لا يتعداها. فى النهاية نحن لسنا بحاجة إلى العودة إلى كلمة سواء... نحن بحاجة إلى فتح أبواب الصراع السياسى والمجتمعى لكل مدارس الفكر والعمل فى مصر. نحن فى حاجة إلى فتح آفاق جديدة.. وهو ما يتطلب تغييرات جذرية فى نظامنا القائم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وربما بعدها يمكن أن تصبح مصر كما نتمناها محلا لسعادتنا المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع. ---- صحيفة العربي المصرية المعارضة في 27 -6 -2005

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.