فى الفترة الماضية، عقدت الحظيرة الثقافية مجموعة من المهارج – لا أعرف كم تكلفت ولا دوافع إقامتها فى هذا الظرف الصعب الذى تحتاج فيه مصر إلى كل قرش يذهب فى الهواء – ولا أدرى ما هو العائد منها على الشعب المظلوم الذى يتهمونه بالجهل والأمية بل يضعونه أحيانًا فى صف البهائم! فى افتتاح نشاطات مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة والرسوم المتحركة "كام" فى دورته الثانية؛ قال مولانا الذى فى الحظيرة: "إنه لا يمكن لهذا الوطن أن يتأثر فنه وإبداعاته بالظروف التاريخية التى يمر بها الآن، ولن يستطيع أى فصيل أو تيار أو فئة أن ينتزع منا هويتنا، لأنها لو انتزعت منا لتحولنا إلى جثة بلا روح. ويستحيل لهذا الوطن أن يتحول إلى جثة بلا روح، فستبقى مصر دائمًا بفنها وثقافتها وإبداعها". وكلام مولانا الذى فى الحظيرة صحيح إذا كان يقصد ثقافتنا الإسلامية والعربية التى أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث العظيم الذى خلفه الآباء والأجداد الصالحون، أما إذا كان يقصد ثقافة "الهشك بشك" أو ثقافة الهلس أو فن التسطيح والابتذال، فهذا ليس من ثقافتنا ولا من هويتنا، ولا ينتسب إلينا بسبب من الأسباب. ولا ريب أن مولانا الذى فى الحظيرة يحاول أن يبدو ثائرًا وهو ابن حظيرة النظام الفاسد التى استمرت ربع قرن من الزمان، فقد أضاف قائلا: إن صعوبة مهرجان كام السينمائى الدولى وحتى فى دورته السابقة تكمن فى هذا الحراك الثقافى والسياسى والاجتماعى وهذه الروح الثائرة الجديدة فى حياتنا وهذا الهدير المتواصل الذى نأمل من خلاله أن يستقر هذا الوطن، وألا يتعارض التعبير من خلال أى شكل من أشكال التعبير المحترم سواء فى الكتابة أو التظاهر مع حرية الفن والإبداع. وهذا الكلام على ركاكته لا يعبر عن ثورة، ولا عن ثقافة، ولكن يدور فى دائرة السيولة والرخاوة التى صنعتها عقود الفساد المجرم التى استمرت ستين عاما. ويزيد عليها هذا الإنفاق السفيه الذى لا مبرر له. وفى افتتاح ما يسمى مؤتمر "الدين والسياسية" الذى انعقد مؤخرًا بالمجلس "الأعلى للثقافة" عبر أحدهم عن استيائه الشديد من تباطؤ إدارة المجلس فى تنظيم الندوات والفعاليات والأنشطة وإعدادها، وهو ما أدى إلى تأخر المؤتمر، وتساءل: هل هذا متعمد لأن الندوة حول "الدين والسياسية"؟ وواضح أن حسن نية الرجل جعله يرجح الإهمال لارتباط المؤتمر بالدين والسياسة، فالدين الذى هو الإسلام لا مكان له فى المجلس الأعلى للثقافة، وسبق أن قال أمينه الحالى إنه لن يسمح بتديين الأدب ولا أسلمة الفن.. والأعجب من ذلك أن أبرز المشاركين فى المؤتمر من أشد الخصوم عداء للإسلام، وإن كانوا أكثر مودة لغيره من العقائد. لقد قال أحدهم وهو ماركسى قديم يوصف بأنه أستاذ التاريخ الإسلامى: "إننا نعيش فى حالة من الفوضى الدينية نتيجة أن التفاسير القرآنية والأحاديث النبوية ممتلئة بالإسرائيليات، فيما عدا تفاسير الزمخشرى وابن الرازى". ويبدو أن حضرته لم يسمع قط عن الجهود الإسلامية الضخمة التى بذلت فى القديم والحديث والدراسات التى وضعت لمعالجة موضوع الإسرائيليات وكشفها والتحذير منها. لم يكتف صاحبنا الماركسى القديم بما ادعاه عن الإسرائيليات، فأضاف إليه أن العرب قديمًا كانوا يلجأون إلى يهود المدينةالمنورة فى تفاسيرهم للقرآن الكريم، موضحًا أن ذلك يعد أحد أسباب حالة الفوضى الدينية التى نعيشها الآن فى مصر. إن الرجل يشطب جهود أمة بأكملها ليفسر الفوضى الدينية – كما يسميها – التى تعيشها مصر الآن، ولو أنه كان باحثاً يربط الظواهر بأسبابها، لعرف أن ما يسميه فوضى دينية محض هراء، لأن اختلاف الناس فى الفهم أمر طبيعى، ولشخّص ما تعيشه الأمة الآن بأنه فقر فى الحصيلة المعرفية الإسلامية لأسباب منها: انهيار الأزهر الذى خربه المستبدون، وفساد المناهج التعليمية التى خلت عمليًا من تعليم الدين، وتوحش الإعلام العلمانى وحربه الشرسة ضد الإسلام على مدار الساعة، وعدوان الحظيرة الثقافية الدائم على الإسلام والمسلمين. إن المؤتمر الذى لم يضم عالمًا واحدًا من علماء الإسلام، واقتصر على الحظائريين ومن شابههم، يأتى فى إطار تشويه الثقافة الإسلامية وتفريغها من مضمونها، بل يعبر فى بعض جوانبه عن خلل فكرى واضح فى فهم الإسلام. وها هو صاحبنا يطالب المنادين بتطبيق الشريعة بأن يقوموا بتطبيقها مثلما فعل العز بن عبد السلام. ومبدئيا نحن نوافقه على ذلك، ولكن هناك سؤالاً: هل لم تكن الشريعة مطبقة قبل العز بن عبد السلام؟ ألم يكن هناك مسلمون كثر طبقوا الشريعة الإسلامية قبل العز وبعده؟ وأين يقف هو وهو أستاذ تاريخ إسلامى من تطبيق الشريعة؟ هل يؤمن بها حقاً؟ أو أنه يكشف عن عدائه للشريعة والدين حين يزعم أن كل الدول التى مرت بالتجربة الثيوقراطية أى خلط الدين بالسياسية – كما يدعى - أثبتت تاريخيًا أن "الدين" كان "ركوبة" من أجل الوصول إلى السلطة ولتحقيق أغراض تسيء للدين ولا تحقق إلا أغراضًا بعيدة عن الدين. والثيوقراطية – لو سمح لى الشيوعى القديم – هى حكم رجال الأكليروس، وليس مجرد خلط الدين بالسياسة. إنهم يحكمون بالدين غير الإسلامى، ويفرضون الحرمان ويتفضلون بالغفران، والإسلام ليس فيه أكليروس، ولا حرمان ولا غفران. الإسلام فيه أحكام تشمل الأوامر والنواهى التى يقبلها كل مؤمن بالإسلام ومنتم إليه. لقد آن الأوان للتصدى للحظيرة الثقافية، وتطهيرها من خصوم الإسلام، وأنصار النظام المستبد الفاشى الذى سقط رأسه ولم تسقط أذرعه بعد!