الحكم ببراءة المتهمين فى قضية "موقعة الجمل" كان متممًا تقريبًا لنحو ثلاثة وعشرين حكمًا ببراءة متهمين فى قضايا قتل الثوار، وبصرف النظر عن كون المجنى عليهم ثوارًا أو غير ذلك، فإن عبء إثبات التهمة على من تجمعت عليهم أدلة قوية على ارتكاب تلك الجرائم يقع على النيابة العامة، فهى من تمثل الهيئة الاجتماعية وهى الأمينة على الدعوى العمومية، وعندما يقتل هذا العدد الهائل من المواطنين دون أن ينال قاتليهم ثمة نصيب من العقاب فلابد أن ثمة خللاً جسيمًا يعتور منظومة العدالة، عندما قرر عصام شرف انتداب قضاة لاستكمال تحقيقات قضايا قتل الثوار إثر مليونية شهيرة كان الباعث عليها البراءات المتتالية للقتلة كان ذلك ولا شك قدحًا فى نزاهة التحقيقات، فانتداب قضاة من خارج جهاز النيابة هو فى ذاته مؤشر على عدم قدرة ذلك الجهاز على العمل بكفاءة أو وجود شائبة كبيرة تؤثر على تساوى كفتى الميزان، وقالت النيابة يومئذ إن الشرطة والمخابرات رفضتا التعاون معها لكشف الحقيقة وهو سبب لو صح لكان كافيًا ليعلق السادة المستشارين العاملين بالنيابة عملهم وليطوفوا بمكتب النائب العام مطالبين إياه بالاستقالة وربما كان يستحق أن يتوجه أعضاء النيابة إلى مكتب المشير طنطاوى لمطالبته أيضًا بالاستقالة لعدم تمكينهم من أداء رسالتهم، وكيف لا والشهداء هم أنبل وأشرف ما أنجبت مصر والقتلة هم أنجس وأخس من حملوا جنسية مصر، وكيف لا والشهداء هم سادتنا الذين سبقونا إلى ربهم والقتلة هم أبناء رجال الحزب الوطنى فى الشرطة والمخابرات فى ذلك الوقت، وكيف لا والشهداء هم فى الغالب من حرموا حق العيش كمواطنين بينما القتلة هم من سرقوا كل شىء حتى بطاطين معونة الشتاء ودعم بطاقات التموين، ولكن السادة أعضاء النيابة اكتفوا بتوجيه اللوم إلى الشرطة والمخابرات اللتين أجابتا بأن النيابة لم تطلب أبدًا مساعدتهما حتى ظنا أن المواد الفيلمية التى تحوى مشاهد القتل والقمع هى مواد غير ذات قيمة. ثم جاء الحكم فى قضية "الجمل" كاشفًا عن خلل حقيقى فى منظومة العدالة فى مصر، فالمسئولية السياسية للنائب العام عبد المجيد محمود فى تلك اللحظة كانت تستوجب منه تقديم استقالته، ولكنه لم يفعل، مما دفع الرئيس الدكتور مرسى إلى تعيينه سفيرًا فى الفاتيكان حفظًا لماء وجه مؤسسة الادعاء المصرية، إلا أن الرجل قاوم ذلك القرار إلى درجة غير مسبوقة من رئيس جهاز لم يحرز النجاح الكافى غير أن المشهد الذى كان أكثر غرابة هو تجمع عدد كبير من رجال النيابة حول مكتبه فيما تشابه مع المظاهرات التى كانت تطالب بإقالته، وتعجبت بحق من موقف رجال النيابة الذين استنفرهم قرار الإقالة فتظاهروا له ولم يستنفر مشاعرهم أربعة وعشرين حكم براءة لقتلة الثوار ليتظاهروا لها. ثم جاءت الطامة الكبرى والكارثة العظمى غير المسبوقة فى تاريخ أى دولة فى العالم عندما امتنع نصف القضاة تقريبًا عن أداء مهمة قومية واجبة قانوناً عليهم وهى الإشراف على الاستفتاء، ثم تطور الأمر إلى قيام بعض من شباب النيابة العامة بالتظاهر ضد النائب العام الجديد أمام مكتبه ثم إجباره على الاستقالة، ثم أن كان مؤتمر نادى القضاة الذى انتهى بمواجهة بين بعض وكلاء النيابة وبعض المتظاهرين السلميين انتهى إلى إطلاق أعيرة نارية ثم القبض على بعض المتظاهرين السلميين وحبسهم احتياطيًا. وهنا لا أحب أن أعلق على تلك الأحداث، فهى تعلق على نفسها، ولكنى أتوجه إلى السيد الأستاذ الدكتور محمد مرسى رئيس الجمهورية وإلى المستشار أحمد مكى وزير العدل وإلى المستشار طلعت عبد الله النائب العام، قائلا يكفى هذا، بل إن أقل من هذا بكثير يكفى، وأهرع إليهم باتخاذ القرارات القانونية بحل النيابة العامة بالكلية والإعلان فورًا عن مسابقة قومية كبرى للنيابة يكون السادة الأعضاء الحاليون مرشحين فيها على قدم المساواة مع غيرهم من شرفاء الوطن وبما يتيح تشكيلاً قوياً للنيابة المصرية يتناسب مع التقدم المنشود من ناحية الكفاءات العلمية والمهنية التى ربما تحتاج إليها مؤسسة الادعاء الجنائى المصرية، ولكن تلك المسابقة بكل تأكيد يجب أن تستبعد كل من أنكر نداء الوطن وتنكر له وقت الشدة سواء بالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية مثلا أو غيرها من الواجبات التى ينص القانون على وجوب أدائها.. وأقول لهم أيضا إن احترام الهيئة القضائية واجب لصفتها لا لأشخاصها بذواتهم، وصفة القضاة قوامها أداء العمل لا الامتناع عنه، والنزول على القانون لا التمرد عليه، واحترام المتظاهرين السلميين لا إطلاق الرصاص ترويعًا لهم، واحترام مؤسسات الدولة لا تهديدها وضرب المواعيد لإرغامها على مخالفة الصالح العام. إن حل مؤسسة النيابة العامة الآن يعتبر فرصة للنابهين والمتفوقين من رجال النيابة الحاليين لإثبات جدارتهم عندما يفوزون بمناصبهم مرة أخرى فى عهد الثورة لا فى عهد حسنى مبارك، وإن كان السادة المستشارون الأجلاء وزير العدل أو النائب العام يرون غير ذلك فلنا إذن أن نطالبهم فورًا بتحديد المسئولية عن إهدار دم الشهداء الذى يعتبر مطلبًا سياسيًا وليس فقط مطلبًا قانونيًا وإن كانت الأحكام محصنة بعدم التعليق عليها، فإن السياسة القضائية غير محصنة، بل هى اختصاص أصيل للشعب صاحب السيادة طبقا للدستور والصادرة باسمه الأحكام طبقا للقانون يقررها كيف يشاء، وإن استقلال القضاء قوامه أداء العمل لا الامتناع عنه بل وأداؤه بصنعة المحترفين لا الهواة والمتفوقين ولا المتعثرين.. إن من حقنا أن يكون لدينا قضاء، ولقد كتب الله على بنى إسرائيل أن "من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، فكيف بمن قتل الآلاف.. إن من حق الشعب أن يعرف الحقيقة فورًا. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]