ابنى أسامة، شاب تخطى العشرين بسنوات قلائل؛ طالبٌ منتسبٌ بالجامعة؛ له ظروف صحية خاصة تعوق سهولة خروجه من المنزل فهو لا يغادره إلا نادرًا وبصعوبة، مما جعله "رهين المحبسين": الفراش الذى ربما يقضى فيه أربع ساعاتٍ يوميًا والشاشة التى يقضى أمامها العشرين ساعة المتبقية، أقصد شاشة الكمبيوتر، بالطبع تزاحمها على استحياء شاشتا الهاتف المحمول والقنوات الفضائية، ففى ظل عزلته الإجبارية أصبحت تلك الشاشات أخلص أصدقائه المقربين. أسامة ذكى يسعى لتثقيف نفسه ذاتيًا ثقافة متنوعة لا يحول بينه وبين ذلك سوى أنه ورث عنى صفة الكسل، وهو ليست لديه أية انتماءات سياسية أو توجهات دينية أو التزامات حزبية، ولكن يسهل بالاقتراب منه أن تكتشف أنه يؤمن بمجتمع حرٍ عادلٍ منفتح ديمقراطى لا يحارب الدين ولا يتحكم فيه الدين، أى يمكن تصنيفه بليبرالى معتدل، أما سلوكه الدينى على المستوى الفردى التعبدى فلا يرضى السيدة الفاضلة والدته (السلفية الثيوقراطية) فتكثر من الدعاء له بالهداية، وقد اختلفا كذلك فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية حيث اختارت أمه "د. أبو الفتوح"، بينما انتخب هو الأستاذ "حمدين صباحي" وتمسك بشدة وقوة بحمدين حتى بعد الانتخابات، أما فى الإعادة فقد تحمس تمامًا وبقوة للوقوف خلف "د. مرسي" قناعة منه بكارثية استيلاء شفيق على حكم مصر. بحكم السن والتخصص، فأسامة هو مستشارى الفنى والتقنى وأنا مستشاره الثقافى والسياسي، ووفقًا لطبيعتى الديمقراطية (التى تفرز أحيانًا نتائج سلبية) فلم أفرض عليه توجهًا وأكتفى بالتوعية والتوجيه، وقد لاحظت (بدون تدخل مني) تحولاً غريبًا فى سلوكه وتفكيره حيال النخبة والقادة السياسيين، والعجيب أن السبب فى ذلك كان سلوك هذه النخبة وليس بتوجيه الطرف المقابل. ذات يوم رصد أسامة على "فيس بوك" حملة شرسة للتنديد بالدكتور الكتاتنى يومَ كان رئيسا لمجلس الشعب؛ حين ترأس وفدًا شعبيًا من صفوة رجالات مصر بمختلف أطيافهم لزيارة المملكة العربية السعودية وتلطيف الأجواء عقب حادث احتجاز المحامى المصرى فى جدة، وكانت الحملة على الكتاتنى مغرضة شعواء هوجاء تتهمه بالخيانة والعمالة والخور.. إلخ من الصفات المهينة، وكان من بين ما وُجه له من تُهم أنه فرط فى العلم المصرى الذى اختفى فى الصور التى نقلتها وسائل الإعلام المصري، اندهش أسامة لهذه الحملة عمومًا ولموضوع صور العلم المصرى خصوصًا، وآلى على نفسه (مبادرًا وبدون توجيه) أن يجمع من على الإنترنت أكبر قدر ممكن من صور هذه الزيارة، وإبراز وجود العلم المصرى فيها بمواطن مختلفة وبمنتهى التوقير والاحترام، ثم أخذ يدور بتلك الصور على الصفحات المضللة، ويفرض عليهم الاعتراف بكذبهم بالدليل والبرهان، ويحاور هنا ويجادل هناك، ويُتهم هنا ويُشتم هناك، ولكنه فى النهاية نجح فى فرض الحقيقة على معظم تلك الصفحات مما أشعره بنشوة الانتصار. استهوت الفكرة أسامة وكأنما انقدح فى صدره أن يجعل زكاة الوقت الطويل الذى يقضيه على الإنترنت أن يقوم بترصد هؤلاء الكذبة المضللين وفضحهم ومواجهتهم بالدليل والبرهان، تم ذلك بدون توجيه منى ولا حتى علم، فحجم متابعتى ل"فيس بوك" أقل منه بنسبة 90%، إلا أننى فوجئت به وقد عهدته (عادةً) طيبًا وديعًا مُسالمًا قد أصبح مُحاربًا شرسًا ونبتت له أنيابٌ ومخالب من فرط ما اكتشفه من حجم الأباطيل الزائفة التى يروجها أتباع التيار المناهض للشرعية والاستقرار على اختلاف أطيافهم، فكان يبذل جهودًا مضنية لتفنيد أباطيلهم بدون أن ينجرف إلى تحزبٍ أو انحياز. سألنى ذات يوم عن شابٍ وضع صورة للرئيس "د.مرسي" وهو يصلى وقد وقف بجواره أحد الحراس بدون أن يصلي؛ وقد كتب تحتها: "انظروا إلى الرئيس المتأسلم كيف يمنع حراسه من الصلاة"؛ سألنى أسامة كيف يرد عليه؟ فاقترحت عليه أن يقوم فقط بوضع صور من الحرمين الشريفين فى مكة والمدينة أثناء الصلاة حيث يحيط الحراس بالأئمة الكرام مؤجلين صلاتهم إلى ما بعد أداء مهمتهم الواجبة، ونصحته أن يكتفى بوضع الصور دون أن يعلق؛ وفى اليوم التالى بشرنى مبتسمًا بأن المفترى على د. مرسى قام بحذف الصورة والتعليق. فى الأسابيع الأخيرة الملتهبة اندلعت الحروب الإعلامية الشرسة فى التأسيسية والإعلان الدستورى والنائب العام واعتصام التحرير وحصار الاتحادية ومدينة الإعلام والمحكمة الدستورية، ثم الاستفتاء والدستور والشيخ المحلاوي، واستُخدمت فى هذه الحروب الأسلحة السوداء المحرمة من جرثومية وعنقودية؛ حيث استباح (الفلوثورجية) كل محرم وبلغت الأكاذيب ذروتها من فوتوشوب وتلفيق وتزييف وادعاء، فتفرغ أسامة لمواجهة هؤلاء الشياطين بعد أن اكتشف أنهم يكذبون كما يتنفسون، ومؤخرًا حمّل نسخة من الدستور فوضعها على سطح المكتب وقرأها جيدًا مرارًا وتكرارًا، ثم نصّبَ نفسه مبيدًا حشريًا للدجالين المفترين؛ وللمتطاولين على الدستور وواضعيه؛ معتمدًا منهجًا وحيدًا هو فقط مواجهة الأباطيل بالحقائق الدامغة.. فانتصر. بالأمس مازحنى أسامة قائلاً: إن التهمة الجاهزة والمعلبة التى يرد بها عليه مخالفوه دومًا أنه من الكتائب الإلكترونية للإخوان، حتى أنه فكر أن يطلب منى إذا كنت بحكم علاقاتى أعرف أحدًا من الإخوان أو من المسئولين عن كتائبهم الإلكترونية لأعرض عليهم خبراته وخدماته.