التجاذبات التي ميزت الساحة السياسية الجزائرية حول ذهاب رئيس الحكومة من عدمه، أثارت الكثير من الارتباك لدى الأوساط الحزبية والسياسية، خاصة على مستوى التجمع الوطني الديمقراطي، الحزب الذي ينتمي له رئيس الحكومة "المستقيل" أحمد او يحي، وفتحت المجال للكثير من التخمينات والتفسيرات، التي تأكد بعضها بعد غياب رئيس الحكومة عن بروتوكولات استقبال ضيوف الجزائر من رؤساء الدول، وهو ما فهم آنذاك بالفتور الذي ميز العلاقة بين رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة ورئيس جهازه التنفيذي. وبعد عشرة أيام من غياب جواب شاف على عرض بيان السياسة العامة لرئيس الحكومة السابق على البرلمان، تأكد ذهاب أحمد او يحي من على رئاسة الجهاز التنفيذي، وقدم استقالته لرئيس الجمهورية، وهنا يبرز السؤال الذي يطرح بقوة: لماذا تخلى الرئيس عند رئيس الحكومة السابق، وهو من قال: لو تخلي عني الجميع، لن يتركني "سي أحمد"، فماذا تغير في منظور الرئيس؟ وأين أخطأ رئيس الحكومة؟ أم أن الأمر لا يعدو نهاية مهمة أوكلت إليه. ثم ألم يتبنى رئيس الحكومة السابق برنامج الرئيس ودافع عنه، ودفع ثمن ذلك التخلي المؤقت عن أفكاره، التي كان يناضل من أجلها، أم أن الرجل كان أذكى من رئيسه، واستعمل الجميع حتى انتهت اللعبة، هل أدرك الرئيس بوتفليقة أن رئيس حكومته أصبح عبئا حقيقيا، لهذا عجل برحيله، ألم يكن أو يحي واثقا من نفسه، وضرب موعدا للصحافيين في الدخول الاجتماعي القادم شهر سبتمبر . لماذا تغيير رأس الجهاز التنفيذي فقط، ثم لماذا استثني أحمد او يحي حتى من منصب في الحكومة الجديدة، وهو الذي يعتبر عميد الجهاز التنفيذي، فما سر غياب اسمه في هذه التشكيلة، مع أنه رقم مهم في معادلة التحالف الرئاسي، ألم يكن الرجل مطيعا، وصاحب المهمات القذرة كما وصفوه، لجرأته في معالجة الملفات الأكثر تعقيدا، من تسريح العمال إلى غلق المؤسسات إلى ما يسمى بالإطارات المسجونة التي جفت فيها الكثير من الأقلام؟ كل هذه الأسئلة تفتح المجال واسعا للتأويلات، لأن الأمر يتعلق بشخصية من العيار الثقيل في الساحة السياسية الجزائرية، وهو الملم بأكثر التفاصيل السياسية والاقتصادية، بحكم معايشته لفترة الأزمة، وكذلك للتحولات السياسية والاقتصادية بعد مجيء الرئيس بوتفليقة، الميزة التي جعلت منه أقوى رجال الدولة الحاليين، أضف إلى ذلك تبنيه لبرنامج رئيس الجمهورية ودفاعه عن أفكاره، وهو كذلك من سير الفترة الحرجة التي مرت بها الجزائر في نهاية السنة الماضية عندما كان الرئيس في مستشفي "فال دو غراس" بباريس. إذا، ما الذي تغير حتى يستبعد او يحي، هل لمعارضته على تغيير الدستور من أجل تمكين الرئيس من عهدة ثالثة، المطلب الذي نادى به حزب جبهة التحرير الوطني مرارا، وكان الحصان الذي يراهن عليه في أي خلاف بين أحزاب الائتلاف الرئاسي؟ أم أنه فعلا يد كابحة، فحسب ما يتداول كان المعرقل لكل الاستثمارات خاصة الخليجية منها، وبأنه حرم الجزائر أكثر من 40 مليار دولار استثمارات عربية، باعتبار أنه كان يرأس مجلس الدولة للاستثمار، وهو الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في هذا الملف، رغم أن هذا المجلس من المفروض أن يجتمع في الحالات الطارئة والكبيرة والمستعصية على الوكالة الوطنية لترقية الاستثمار، التي تحولت حسب المتتبعين إلى مجرد صندوق بريد لمجلس الدولة للاستثمار. وربما أيضا لما تتداوله بعض الأخبار من أن الرئيس امتعض من رئيس جهازه التنفيذي في ملف الخصخصة، الذي سجلت عليه الكثير من التحفظات فيما يتعلق بالمصانع التي تم خصخصتها إلى حد الآن، والتي بلغت حوالي 230 مصنعا من مجموع أكثر من 1200 مصنعا يعنيه إجراء الخصخصة، الملف الذي ترى أطراف أخرى أن أحمد او يحي كانت له نظرة خاصة بشأن التنازل عن هذه المصانع للقطاع الخاص، وكذا تحفظه من العقار الصناعي ونسبة التنازل ونوعية المتنازل له، ومن له الأولوية، ومن كان معنا في السنين العجاف ومن كان متحفظ علينا، وهي تصنيفات سُجل فيها الكثير من الأخطاء والتجاوزات، وهو ما انعكس سلبا على الوتيرة المتوخاة في هذا الملف. وإذا كانت هذه هي الأسباب الحقيقية التي عجلت برحيل الرجل القوي في الجهاز التنفيذي، فإن الأمر لا يعدو أن يكون خلافا اقتصاديا بحتا، عكس ما ذهبت إليه مصادر أخرى من أن رئيس الحكومة اشتط بطموحه السياسي، حيث كان يتطلع لأن يكون رئيسا للجمهورية سنة 2009 أو 2014، وهي التفسيرات الأضعف مقارنة بالشق الاقتصادي، الذي يعول عليه الرئيس بوتفليقة كثيرا لتحقيق برنامجه الخماسي، والذي خصص له أكثر من 60 مليار دولار. والملحوظة المهمة في كل هذا، هو ما أصبح يعرف بتقاليد رئيس الجمهورية في إبعاد رجال من العيار الثقيل من الساحة السياسية، ببعث رسائل تهميش لهم وتترجم سريعا من طرف من أرسلت إليه بدءا برئيس المجلس الشعبي الوطني السابق كريم يونس الرجل الذي ساند خصم بوتفليقة في رئاسيات 2004، حيث همشه بعد ما تعمد عدم الإمضاء له على أي أمر بمهمة للخارج في المشاركة الدولية، وكذلك الأمر مع قائد القوات الجزائرية محمد لعماري، عندما كلف وزير الداخلية محمد يزيد زرهوني باستقبال وزيرة الدفاع الفرنسية، التصرف نفسه حصل مع رئيس الحكومة السابق أحمد او يحي، عندما لم يستدع لاستقبال ضيوف الجزائر في الفترة الأخيرة، بدءا برئيس فنزويلا وبعده رئيس الوزراء التركي، الرسالة التي فُهمت جيدا، وقدم بعدها استقالته، وكلف قرينه في التحالف الرئاسي عبد العزيز بلخادم الأمين العام للجبهة التحرير الوطني برئاسة الحكومة. المصدر: العصر