مرة بعد أخرى، وأنا أطالع المسودة النهائية التى قدمتها اللجنة التأسيسة لوضع الدستور المصرى الجديد إلى فخامة الرئيس محمد مرسى عشية يوم السبت الموافق 1/12/ 2012، ينتابنى شعور بالفخر والعزة، وإحساس بالكرامة والمكانة، شعور لم يتملكنى من قبل إلا فى مثل هذه اللحظات التى يصل فيها الشعب المصرى العظيم إلى إنجاز كبير، وذلك مثل إنجاز الثورة المباركة التى تفجرت يوم الخامس والعشرين من يناير 2011، وأزيح على أثرها النظام البائد، وذلك بعد أن قدم الشهداء أرواحهم، وفقد كثير من المصريين بعض أبنائهم، أو بعض إخوانهم أو بعض عشيرتهم، بل وفقد الكثير من الناس أيضًا بعض أطرافهم لتحيا مصر الغالية. ونستطيع أن نقيس عظمة هذه المسودة من خلال ما تتضمنه من نصوص لتحقيق أهداف هذه الثورة المجيدة، لأن أهداف الثورة هى المعيار الرئيس لقياس أهمية المسودة ومكانتها عند المصريين، وقد استطاع الشعب المصرى حينما خرج فى ميدان التحرير وفى كل ميادين مصر الأخرى، أن يلخص أهداف الثورة فى جملة واحدة هى: (عيش.. كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية). نعم لقد لخصت أهداف الثورة فى هذا الشعار، وبقدر ما تضمنت المسودة من نصوص لتحقيقه يكون مقدار نجاحها ومدى أهميتها. والمطالع لهذه المسودة يجد أنها تركز تركيزًا شديدًا على كرامة الشعب المصرى التى أهدرت فى العقود الماضية، بشكل يجعل الدستور اليوم مصدر فخر وإعزاز لكل المصريين، ومن أهم هذه المواد التى نقدمها كنماذج فقط وأدلة على ذلك: م 31 التى تقرر أن الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز بحال إهانة أى إنسان أو ازدراؤه. وكذلك م 35 والتى تحمى كرامة المصرى عند الاتهام، حيث لا تجيز القبض عليه ولا تفتيشه ولا حبسه... إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق. وكذلك م 36 التى تحمى كرامة المصرى حتى داخل السجن بعد الحكم عليه بالعقاب، حيث تجب معاملته بما يحفظ كرامته. ويكمل هذا المعنى أيضًا م 37 والتى تحرم داخل السجون كل ما ينافى كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر. كما تلزم الدولة بتوفير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم. وأما عن هدف الحرية فقد كان له نصيب وافر من مواد هذه المسودة، لعل من أهم هذه المواد، م 34 والتى تجعل الحرية الشخصية حقًا طبيعيًا لا يمس، والمادة 42 التى تتكفل بحرية التنقل والإقامة والهجرة. والمادة 43 والتى تجعل حرية الاعتقاد مصونة. وتؤكد على كفالة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية. والمادة 45 التى تكفل حرية الفكر والرأى، وحرية التعبير بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك. والمادة 46 التى تكفل حرية الإبداع بأشكاله المختلفة. والمادة 48 التى تتكفل بحرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام. والمادة 49 التى تحمى حرية إصدار الصحف وتملكها، بجميع أنواعها، والمادة 50 والتى تحمى حرية تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية. والمادة 52 والتى تكفل حرية إنشاء النقابات والاتحادات والتعاونيات، والمادة 59 التى تضمن حرية البحث العلمى، واستقلال الجامعات والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحث العلمى. وأما عن العيش والعدالة الاجتماعية فلقد زهى الدستور بكثير من المواد التى تصب فى تحقيق هذا الهدف أيضًا، ومن أبرز هذه المواد م14 والتى أكدت رفع مستوى المعيشة وتحقيق الرفاه، والقضاء على الفقر والبطالة، وزيادة فرص العمل. وعلى إقامة العدالة الاجتماعية والتكافل، وضمان عدالة التوزيع، والمحافظة على حقوق العاملين، وأوجبت ربط الأجر بالإنتاج، وتقريب الفوارق بين الدخول، وضمان حد أدنى للأجور والمعاشات بما يكفل حياة كريمة لكل مواطن. وم 33 والتى تؤكد أن المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات العامة. والمادة 63 والتى تؤكد أن العمل حق وواجب وشرف لكل مواطن، تكفله الدولة على أساس مبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص. وأن الوظائف العامة للمواطنين متاحة على أساس الجدارة، دون محاباة أو وساطة. والمادة 65 والتى تؤكد على التأمين الاجتماعى. والمادة 67 التى تؤكد أن المسكن الملائم والماء النظيف والغذاء الصحى حقوق مكفولة. والمادة 69 التى تؤكد أن لكل شخص الحق فى بيئة صحية سليمة. والمادة71 والتى تكفل الدولة رعاية النشء والشباب، وتأهيلهم وتنميتهم وتمكينهم من المشاركة السياسية الفاعلة. وفى التأكيد على حقوق شهداء الثورة ومصابيها تؤكد م 64 تكريم الدولة شهداء ومصابى ثورة الخامس والعشرين من يناير والواجب الوطنى، وترعى أسرهم وأسر المفقودين فى الحرب وما فى حكمها. ويكون لهم ولأبنائهم ولزوجاتهم الأولوية فى فرص العمل. وكل ذلك وفقًا لما ينظمه القانون. والحرص على تأكيد أهداف الثورة يشعر بأن روح الثورة كانت تسيطر على أجواء التأسيسية، وأن الشهداء والمصابين فى هذه الثورة هم الذين كتبوا بدمائهم هذه المواد، وأن حب مصر والعمل لهذا الوطن العزيز كان القاسم المشترك بين كل من اشترك فى التأسيسية من الاتجاهات المختلفة والتيارات المتعددة والأحزاب المتنافسة. والآن بعد خروج المسودة وطرحها للتصويت بين جموع الشعب المصرى، نهنئ أنفسنا، ونقول لنا وللعالم أجمع لقد اقترب يوم الحصاد، وكدنا أن نقطف ثمرة هذا الجهاد الكبير ونتيجة هذه المسيرة الضخمة الجليلة للثورة المباركة، ولعل عظمة الوصول إلى هذه الثمرة هى التى جعلت المستشار حسام الغريانى يجهش بالبكاء وهو يقوم بمهمته الوطنية فى تسليم مسودة الدستور إلى فخامة الرئيس مرسى، كما جعلت د. محى الدين يجهش بالبكاء أيضًا فى نهاية الجلسة التاريخية العظيمة التى اعتمدت فيها الدستور، وهو فخور بتلبية دماء الشهداء فى هذه المسودة والتى كتبت فى حب مصر، كما جعلت د. داود الباز يقف مزهوًا ويصف ذلك اليوم بأنه يوم مشهود. نعم إنه يوم مشهود يا دكتورنا العزيز وحق لأعضاء التأسيسية جميعًا أن يفخروا به، ووجب علينا أن نقول لكم جميعا: هنيئًا لكم هذا الإنجاز العظيم. أستاذ العلاقات الدولية المشارك بجامعة الأزهر وجامعة البحرين [email protected]