أجمل ما في المصريين أنهم لا يتخلون عن الفكاهة حتي في الجنازات. شخصيا أحفظ العديد من النكات التي صنعها أصحابها في مواكب التشييع تعليقاً علي مغالاة بعض أهل الميت في ذكر مناقب لم يعرفها الفقيد العزيز في حياته. علي كل حال، لسنا في مأتم هذه الأيام، لكننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نقبل المبالغة العاطفية للإعلام المصري الذي يعتبر الانتخابات القادمة عرسا للديمقراطية . هناك إرهاصات تغيير ليس بفضل المكرمة الرئاسية بتعديل مادة يتيمة في الدستور، لكن بفضل ميلاد قوي معارضة جديدة وحقيقية، تقودها الطبقة الوسطي العائدة إلي الحياة. وإلي أن تثبت هذه القوي وجودها فإن أطراف الترسيمة السياسية القديمة تواصل هوايتها في التنكيت بوصفها طليعة قوي الفكاهة في المجتمع. الأحزاب وكنت أحسبها خمسة عشر، فإذا بها تصل إلي الرقم عشرين لمجرد أنني نمت مبكراً ليلتين متتابعتين، من وافق علي قيام هذه الأحزاب وبعضها يتمتع برئاسات تمثل حالات سريرية للمرض النفسي والعقلي؟! هذه الأحزاب فوجئت بالمنحة الديمقراطية التي كانت فوق مستوي خيالها، لكنها علي كل حال التقطت الإشارة هي ومجلس الشعب، باعتبار أن ما سيجري في الانتخابات المباشرة الأولي هو نوع من الوقت الإضافي الممنوح من أجل مزيد من التنكيت! ہہہ جعل المجلس من ترشيح المستقلين مهمة أقرب إلي المستحيل، وقد تجلت نتيجة شروط الترشيح الصعبة في نوعية المتقدمين لسحب الأوراق للمنافسة علي منصب الرئيس. بعضهم من مهرجي السيرك الذين اعتدنا تقدمهم للمنافسة أيام الاستفتاءات، حيث كان الدستور يتيح قبل تعديل المادة 76 لأي من كان أن يتقدم للترشيح أمام مجلس الشعب، الذي يتولي بدوره التصفية ويطرح للشعب مرشحا واحدا للاستفتاء عليه. وكانت فرصة لا تعوض أمام مهووسي الشهرة الذين يضمنون بترشحهم صورة في جريدة وربما حواراً كوميدياً في قناة محلية! كان ظهور أمثال هؤلاء الظرفاء في لجنة الترشيح بعد تعديل الدستور دليلاً دامغاً علي أن شيئاً لم يتغير، وأن ما اعتبره الإعلام الرسمي عرسا للديمقراطية، لا هو بالعرس ولا يحزنون. أحدهم باع المعزة بتسعين جنيها، وسافر من قريته إلي القاهرة لأن هاتفاً جاءه في المنام وأمره بالتوجه إلي العقار 117 كورنيش النيل، فجاء تلبية للنداء، ليجد في العنوان المذكور لجنة الانتخابات فعرف أنها البشارة وعرف أن مهمته القادمة هي تطبيق شرع الله الذي أيده بعنوان اللجنة في حلم لم يطلع عليه الناخبون. فتاة تقدمت لعديد من الوظائف ولم تحصل علي عمل لسنوات طوال بعد تخرجها، وكان الإعلان عن وظيفة رئيس فرصة لتجرب حظها من جديد. الأحزاب ليست أقل تهريجا، أحدها: حزب الأحرار واصلت قياداته نزاعها، وتقدم ثلاثة للترشيح، ولا أعرف كيف يظل الحزب حزباً ويحصل علي دعم ومقار من ضرائب الفقراء في ظل هذه المسخرة، بينما لا تتواني لجنة الأحزاب عن رفض وتقويض كل فرصة لإقامة حزب وطني حقيقي لا يتصدره المغامرون والمجانين. وباستثناء أيمن نور الذي يجب أن يشكر ظروف الفساد التي ولد فيها، لا يعرف المصريون أحدا من مرشحي الأحزاب الأخري التي يسمعون بوجودها للمرة الأولي. أما لابس الطربوش أحمد الصباحي زعيم حزب الأمة، فهو فاكه العرس الديمقراطي بحق، وقد صرح لكل الصحف أنه سيعطي صوته لمبارك لأنه الأحق، لماذا ترشح إذن؟! النكتة ليست هنا، بل في كون الرجل الذي سيعطي صوته لمرشح منافس لديه برنامج يعد بتطبيقه عندما يصل إلي كرسي الرئاسة. والنكتة ليست هنا أيضا، فالرجل مخاوي جان وربما تفوق مزورو الجن علي مزوري الإنس وفاز الصباحي، في هذه الحالة سيكون علي كل رجال مصر ارتداء الطرابيش، لأنها عنوان الأصالة، وهي علي رأس برنامج المسكين الذي لا يعلم ما آل إليه رمز الطربوش والطربشة في الشارع المصري، فهو ككل الزعماء يدعي إحساسه بنبض الشارع وهو عنه بعيد، فالطربشة عند المصريين تعني التغفيل، والرجل الطربوش هو الرجل الفارغ من الداخل، أو الرجل الذي تجري الأمور من وراء ظهره وهو لاه. والبند الثاني في برنامج الصباحي هو إلغاء عيد الأم وإقامة عيد الزوجة الصالحة بدلا منه، فقد اكتشف أن الزوجة تتعب أكثر، لكنه لم يشرح مفهومه للزوجة الصالحة، ولم يحدد المعايير التي علي أساسها سيتم فرز الزوجات، ولم يضع ضمانات لسلامة الزوج إذا ما تهور وواجه زوجته برأيه الحقيقي فيها كما لم يحدد المكان الذي يجب أن تختفي فيه الزوجة غير الصالحة غداة الاحتفال بالزوجات الصالحات. علي كل حال فإن بقية برنامج الصباحي ليست أقل إدهاشاً وكلها في مزامير الصباحي التي لا تنتظر سوي مصادفة تاريخية تضعها في منزلة مزامير داوود. مزامير النظام عزفت في البداية نغمة السخرية من المرشحين، وصولا بالبرهان المنطقي إلي النتيجة الحتمية: لا أحد مثل الرئيس. ثم تنبهت أو نُبهت إلي وجوب الكف عن السخرية من المرشحين التعساء، وربما كان هناك رجل رشيد انتبه إلي أن القول بافتقار مصر إلي مرشح ملائم أمر يعيب النظام أكثر مما يشرفه، لأن ادعاء مثل هذا يمكن أن يرتد إلي الصدر في صورة اتهام بتجريف البلد وإفقاره سياسيا. ربما كانت هذه الفكرة الألمعية وراء قرار استدعاء رئيس حزب الوفد من صفوف المقاطعة ليكون ذلك الخصم المشرف، لكنه للأسف فشل في الحصول علي ثقة أبناء دائرته في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، وليست لديه أية فرصة للنجاح، خصوصا وأنه يفتقر إلي تأييد القوي فوق البشرية التي يستند إليها الصباحي وتجعله يضحي بصوته لصالح المرشح المنافس حسني مبارك. وضمانا للنزاهة والشفافية فقد بدأ تمثيل دور الحياد الإعلامي بخفة دم منقطعة النظير، وحمل الرئيس المرشح صفة المواطن حسني مبارك فيما يشبه التعميم الصادر إلي جميع الصحف، وربما كان اجتهاداً من أحد السادة الأنافق استملحه الآخرون. وهذا الذي تراه الموالاة تواضعا، هو في وجهه الآخر امتياز يثير الحسد، فقد حصل الرئيس علي حق المواطنة دون أن يطلبه، بينما يتعري المعارضون ويسحلون في المظاهرات لأنهم يطلبون هذا الحق لا أكثر! -------------------------- صحيفة القدس العربي