ما من كلمة كالواقعية تعرضت لكل هذا التنكيل اللغوي والسياسي والثقافي بها. فقد ظن بعض الغلاة في التحرر من الخيال ان الواقعية هي التأقلم التام مع الأمر الواقع، والرضوخ لشروطه حتى النهاية. وكما ان الواقعية السياسية تعرضت إلى هذا التنكيل، فإن الواقعيات الأخرى كلها نالها من التعذيب ما جعلها تتخلى عن مضامينها، وتتحول إلى عجينة رخوة، يمكن للمرء ان يشكل منها تمساحاً أو أرنباً أو فراشة وفقاً لهواه. وحين قال جاردوي قبل أكثر من ثلاثين عاماً إن هناك واقعيات بلا حدود أو ضفاف، كان يحتج بملء العقل والفم والارادة على فلسفة التطويع والقطعنة التي بشرت بها ومارستها أحزاب سياسية لا تعترف للفرد بحق الاختلاف، الا بتلك الدرجة التي يلبي بها المطلوب إليه تنفيذه بلا نقاش. وهنا، نستعير من علم الاحياء ما يسميه العلماء الخلايا الزواحفية في الدماغ، وهي المتخصصة في الأنشطة الدنيا، والمحكومة بقوة الغرائز واندفاعاتها لنسمي الواقعية كما يفهمها عديمو الارادة الواقعية الزواحفية، أو بمعنى أدق السلحفائية، لأنها لا تطيق الخيال، ولا تتوق إلى أجنحة وتبقى أسيرة الالتصاق بالتراب حتى الموت. الواقعية الزواحفية، لا تعترف بحق الانسان في التمرد وإعلان العصيان على الشروط التي تحاصره منذ الميلاد. وقد لخصها مثل شعبي ولد في زمن بالغ الرداءة والامتثال، هو ضع رأسك بين الرؤوس وليقطع كبقية الرؤوس، أو ليكن فراشك بحجم قامتك. ونستطيع ان نسرد قائمة بتلك الأمثال التي ولدت في زمن تحول فيه الانسان إلى قشة في مهب العواصف، لكن الحصيلة تبقى واحدة، وهي تدمير طاقة الاعتراض والممانعة لدى البشر، بحيث يسهل الفتك بهم، وإعادة انتاج آدميتهم وفق وصفات شيطانية غالبا ما يتولى تشخيصها وصرفها اخصائيون في علم التّقْريد. ولو صدق الناس على امتداد التاريخ ما قيل لهم عن الواقعية الزواحفية لما كان لهم تاريخ، وتحولوا إلى امبراطوريات وممالك حشرية، وصاروا مجرد هوام. إن ما سماه “توينبي” نظرية التحدي والاستجابة هو القانون الذي احتكمت إليه البشرية وهي تقاوم أسباب الاندثار والانتحار المعنوي، فالحضارات نهضت على ما يسميه الاستجابة الفذة للتحديات، سواء كانت خارجية أو من صميم نسيجها المهدد بالتلف والتآكل. ولم تزدهر الواقعية الزواحفية في أي وقت كما تزدهر الآن، فقد أصبح لها دهاقنة وجراحون ماهرون في استئصال الضمائر وكل ما من شأنه أن يوقظ في الانسان آدميته التي يجري وأدها منذ المهد. هل الواقعية كما يفهمها الزواحفيون هي القبول بما يجود به التاريخ، حتى لو كان احتلالاً ينتهك نخاع الأمة، ويحولها إلى (أَمَةٍ) بعد حذف الشَدة عن حرف الميم؟ إن الزواحف نفسها لم تستجب لهذه الواقعية المنسوبة إليها؛ فالأفعى حولت عضلاتها إلى عشرات الأقدام، وسعت في الأرض تدافع عن وجودها بكيس من السم. إن الثقافة كلها، سواء كانت شعراً أو أدباً أو فكراً تتحول إلى رماد مبثوث في الكتب إذا تخلت عن مرجعيتها الأولى، وأقنومها المقدس، وهو المقاومة. وما يجري تسويقه الآن عبر مختلف قنوات الاعلام الداجن، والداعي إلى التأقلم الحربائي هو ثقافة مضادة، ليس للإنسان فقط بل للطبيعة كلها وللتاريخ. ---- صحيفة الخليج الاماراتية في 22 -8 -2005