لا يعرف كثير من المصريين دستور1954م، الذى حجبه ضباط يوليو فى غاشية من الليل مظلمة.. رغم أنه - حقًا وصدقًا- كان سيصنع فى حياة المصريين وقتها صنع الغيث فى الأرض الكريمة. كان مجلس قيادة الثورة قد اختار فى يناير 1953م خمسين قامة من أكبر القامات المصرية فى المجالات السياسية والثقافية والقضائية عرفت بلجنة الخمسين ترأسها على ماهر باشا (1881-1969م)، الذى شارك فى ثورة 19وشارك فى لجنة الثلاثين التى كتبت دستور 1923م، وكان رئيسًا للوزراء أربع مرات سابقة وكان رئيسًا للديوان الملكى فى عهد الملك فؤاد.. ورتب خروج الملك بكياسة وحنكة.. باختصار كان قادمًا من تاريخ مليء بالحيثيات الكبرى فى الحياة السياسية المصرية واستحق عن جدارة لقب رجل الأزمات.. تكفل نصوص مواد هذا الدستور المجهول مساحة واسعة من الحقوق للشعب المصرى العظيم.. تجمع بين الحقوق السياسية والحقوق الاجتماعية وبين الديمقراطية والعدل الاجتماعى.. كان دستورًا يسابق معناه لفظه ولفظه معناه. انفرد مشروع دستور۱954 بالنص على إلزام الدولة بالتعويض عن أخطاء العدالة إذا تم تنفيذ العقوبة بناء على حكم جنائى نهائى ثبت خطؤه.. وتضمن حظر المحاكمة أمام محاكم خاصة أو استثنائية، وحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وحظر دخول الشرطة المنازل ليلاً إلا بإذن من القاضى!.. كما انفرد بالنص على عدم تقييد إصدار الصحف والمطبوعات بترخيص وعلى تعادل الجماعات السياسية فى الانتفاع بالإذاعة وغيرها من وسائل النشر التى تتولاها الدولة وترعاها.. وأطلق حق المصريين فى تأليف الجمعيات والأحزاب من دون إخطار أو استئذان مادامت الغايات والوسائل سليمة، على أن تقوم على الأسس الديمقراطية الدستورية، وعلى أن تختص المحكمة الدستورية بالفصل فى الطعون الخاصة بالأحزاب والجماعات السياسية. وحدد وضع رئيس الجمهورية فاشترط فيمن ينتخب رئيسًا للجمهورية أن يكون مصريًا من أب وجد مصريين، متمتعًا بكامل حقوقه المدنية والسياسية، وألا تقل سنه يوم الانتخاب عن خمس وأربعين سنة.. ولا يجوز أن ينتخب لرئاسة الجمهورية أحد من أعضاء الأسرة التى كانت تتولى الملك فى مصر.. كما لا يجوز استمراره فى الحكم أكثر من مدتين (المدة خمس سنوات).. وأن يتم انتخابه بالاقتراع السرى من هيئة مكونة من أعضاء البرلمان منضمًا إليهم مندوبون يبلغ عددهم ثلاثة أمثال الأعضاء المنتخبين فى المجلسين (النواب والشيوخ)، فتنتخب كل دائرة من دوائر مجلس النواب وكل دائرة من دوائر مجلس الشيوخ وكل هيئة أو نقابة ممثلة فى مجلس الشيوخ ثلاثة مندوبين عنها وينظم القانون إجراءات انتخاب هذه الهيئة. لم يحدث فى تاريخ مصر- لا أثناء كتابة دستور1923م ولا أثناء كتابة دستور1956م ولا أثناء كتابة دستور1971م ولا الآن بطبيعة الحال - أن ضمت لجنة لإعداد مشروع دستور مثل الكفاءات الفكرية والقانونية والسياسية التى ضمتها (لجنة الخمسين) هذه.. ورغم ذلك فإن مشروع هذا الدستور الذى استغرق إعداده نحو 18 شهرًا تم تجاهله البتة.. بل وتم إخفاؤه إلى أن عثر عليه فى صورة مجموعة من الأوراق المبعثرة فى مكان مجهول.. وليس محفوظًا كوثيقة رسمية تعبر عن فترة من أهم فترات التحول التاريخى فى مصر الحديثة ولا عن جهد هؤلاء العمالقة التى يندر أن تتوافر وتجتمع فى عصر آخر ووضعت هذا المشروع. لك أن تتخيل أسماء مثل على ماهر باشا، ود.عبد الرزاق السنهورى الفقيه القانونى والدستورى ورئيس مجلس الدولة وقتها، والشيخ حسن مأمون رئيس المحكمة الشرعية العليا وقتها، ود.عثمان خليل عثمان الفقيه الدستورى (صاغ دستور الكويت)، ومحمود عزمى الفقيه الدستورى الدولى الذى شارك فى وضع ميثاق الأممالمتحدة، ومصطفى مرعى شيخ القضاة والمحامين، واللواء أحمد فؤاد صادق القائد العام الأول للقوات فى حرب فلسطين، ود.طه حسين عميد الأدب العربى، ود. أحمد لطفى السيد، ود.عبد الوهاب مورو أستاذ ورئيس قسم الجراحة بكلية الطب جامعة القاهرة، والشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الجامع الأزهر، ومحمد السيد يس رائد الصناعة المصرى، ومكرم عبيد، والأنبا يوأنس وكيل بطريركية الأقباط الأرثوذكس، وحبيب بك المصرى وكيل المجلس الملى العام للأقباط الأرثوذكس، وإبراهيم شكرى مؤسس حزب العمل فيما بعد، وعبد الرحمن الرافعى المؤرخ الكبير، وفكرى أباظة شيخ الصحفيين، ود.عبد الرحمن بدوى أستاذ الفلاسفة العرب، وعن الإخوان المسلمين حسن العشماوى القانونى الكبير، والشيخ محمد الأودن العالم الأزهرى الجليل، وصالح عشماوى، وعبد القادر عودة القاضى والفقيه، ومحمد كمال خليفة، والدكتور عبد الرحمن بدوى أستاذ الفلاسفة العرب. عندما قدمت المسودة فى سنة ۱954 إلى مجلس قيادة الثورة تم تجاهلها تمامًا وإخفاؤها كأنها لم تكن.. إلى أن عثر عليها الأستاذ صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة القاهرة، بمعاونة المستشار طارق البشرى، والدكتور أحمد يوسف أحمد عميد المعهد العالى للدراسات العربية، فى صندوق كان قد وضع فى أحد مخازن مكتبة المعهد. صلاح عيسى توج جهده هذا بإصداره فى كتاب العام الماضى (دستور فى صندوق القمامة)، صدر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.. كتب مقدمته المستشار عوض المر، الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية، الذى قال إن (خير تعبير عن نظرة رجال الثورة إلى الديمقراطية وإلى القيم التى احتواها هذا المشروع هو وضعه فى صندوق القمامة.. تعبيرًا منهم عن قيمته العملية فلا يراه أحد وكأنه خطيئة لا يجوز أن يقربها الباحثون أو غيرهم ممن تعنيهم وتؤرقهم شئون هذا الوطن). كانت ملامح الحياة السياسية بعد الانتهاء من كتابة هذا الدستور قد بدأت فى التشكل والبروز.. وبدأ الشره الرهيب على (جهول القوم) جمال عبد الناصر فى الاستحواذ التام على السلطة التنفيذية، وهو ما أفزع هذا النفر من حكماء الأمة الذين تجمعت آراؤهم حول اللواء محمد نجيب كى يأتى رئيسًا للجمهورية الذى نادى صراحة بضرورة عودة الجيش إلى ثكناته.. فوضعوا النص الذى يشترط على ألا يقل سن رئيس الجمهورية عن خمسة وأربعين عامًا.. لكن عبد الناصر(34 عامًا) كان قد رتب أموره جيدًا وأبعد اللواء محمد نجيب وتخلص منه بأخس وأحط الوسائل.. ثم تخلص من هؤلاء الحكماء فيما بعد جماعات وفرادى.. وظلت البلاد تحكم بإعلان دستورى مؤقت إلى أن صدر دستور 1956م. المقارنة بين أسماء (لجنة الخمسين) التى كتبت دستور1954م، وبين (اللجنة التأسيسية) الحالية لا تحمل إساءة للتأسيسية.. فكلهم- ولا أستثنى أحدًا- نتاج طبيعى لحكم الثورة المباركة طيلة ستين عامًا..! والتى مازال نفر من المثقفين والسياسيين يتغنون بها.. لكنك لا تملك إلا التحسر ما وسعك إلى التحسر سبيلاً حين يذهب ذهنك تلقائيًا للمقارنة بين الأسماء هنا والأسماء هناك.. والقول ذو خطل **إذا لم يكن لب يعينه... ولن أزيد من الشعر بيتًا آخر فى ذلك. يلحظ أيضًا أن هذا الدستور لم يتعرض للشريعة الإسلامية لا بصفة المبادئ ولا بصفة الأحكام، واكتفى فقط بالنص فى باب الأحكام العامة (المادة 195) على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية.. رغم مشاركة أسماء لا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بالإسلاميين المشاركين فى التأسيسية الحالية مع كل الاحترام.. فقد شارك وقتها شيخ الجامع الأزهر، ورئيس المحكمة الشرعية العليا، والعلامة الشيخ الأودن أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، والفقيه عبد الرازق السنهورى صاحب رسالة الدكتوراه عن (فقه الخلافة وتطورها لتصبح أمم شرقية)، والعلامة الفقيه القاضى عبد القادر عودة مؤلف كتب (التشريع الجنائى فى الإسلام) و(المال والحكم فى الإسلام) و(الإسلام وأوضاعنا القانونية)، والأستاذ صالح عشماوى والأستاذ محمد كمال خليفة أعضاء مكتب الإرشاد، وكلهم جبال رواسخ فى الوعى بالفكرة الإسلامية.. وهو ما يفهم منه أن مجرد النص على أن الإسلام دين الدولة كان كافيًا لاعتبار الشريعة الإسلامية (مبادئ وأحكام ومقاصد)هى المصدر الرئيسى للتشريع.. ويتكفل المشرع بوضع القوانين طبقًا لشريعة (دين الدولة) وفقًا لنص الدستور.. ويكون بذلك قد تم كل التمام وكمل كل الكمال فى تطبيق الشريعة وفى الالتزام بالدستور. ماذا نسمى إذن الجدل الدائر الآن حول موضوع الشريعة؟.. صدق من قال بئس الحال أن يكون الرأى لمن يملكه لا من يبصره.