انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام حول قضية "الفقه والتجديد" في الفقه الإسلامي طرفين متناقضين وطرف وسط، قسم رأى البقاء على القديم، ورفض كل جديد وتجديد، وقسم فتح الباب على مصراعيه لكل تجديد حتى وإن كان في الثوابت والأصول، وقسم رزقه الله إصابة الوسط فأصاب الحق وقبل التجديد بالضوابط الشرعية، وسدَّ الباب على التفريط والإفراط. لقد مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ظهراني الصحابة، يفتيهم، ويجيب على أسئلتهم، وكان القرآن يتنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة يتعلمون ويتفقهون من الكتاب والسنة، ولما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- حمل راية الفقه أصحابه، وكان بعضهم أفقه من بعض، فكان عمر -رضي الله عنه- من المجلين في هذا الشأن، وغيره كثير، ثم حمل الراية التابعون ثم تابعو التابعين، حتى أوصلوها إلى الفقهاء الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد). وقد أسس فقهاء المذاهب الأربعة التي تعمقت في أصول الفقه والدين، وظهر نوع من التعصب والجمود لهذه المذاهب الأربعة، وتمحور كثير من الفقهاء حول نصوص أئمتهم لا يجاوزونها، ثم يسَّر الله انتعاش الفقه مرة أخرى في هذا العصر، وقام مجوعة من الفقهاء في إبراز الفقه في ثوب جديد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوالت في هذا العصر دعوات إصلاحية، وهيئات، ومجامع فقهية، تباينت في إسهامها، ولكنها في الجملة قد دفعت حركة الفقه قدماً، وتصدّت هذه الجهود لنوازل المجتمع وقضاياه ويرى هذا الفريق أن تجديد الفقه لا يقصد به هدم الأصول أو الانتقاص من قدر الماضي شيئًا وإنما يقصد به إعادة نضارته وبهائه وإحياء ما اندرس من معالمه، والعمل على نشره بين الناس، وكذلك: التصدي للمستجدات التي تظهر في كل عصر؛ لبيان الحكم الصحيح لهذه المستجدات والتجديد هنا لا يعني اختراع فقه جديد فذلك في الحقيقة تحريف ومسخ. إن التجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وتتلاءم مع ما هو معلوم من أن الله قد ختم الأنبياء بمحمد -صلى الله عليه وسلم، فالعلماء الذين يجددون لهذه الأمة دينها هم نواب له ووارثو هدية -صلى الله عليه وسلم، فهم يحيون ما اندرس من الدين في نفوس الناس. ولقد نص الحديث الصحيح على هذا حيث قال -صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها). وفي الحديث بشارة وعد بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمة أنها لا تخلو من المجددين، فهو وعد إلهي لا يتخلف. لقد كان هذا الفقه أساس التشريع والقضاء والفتوى في العالم الإسلامي كله طيلة ثلاثة عشر قرناً، تبدَّلت فيها النظم وتغيّرت الأوضاع والأحوال، فلم يضق صدره بمشكلة ولم يقف عند نازلة، بل كان لديه لكل حادثة حديث، ولكل واقعة حكم، ولكل مشكلة علاج فالفقه الإسلامي يمتاز بقواعده الدقيقة وأصوله المقننة المتقنة التي تضبط طرائق الاستنباط، وهو ما يعرف بعلم (أصول الفقه) الذي عرف لدى علماء المسلمين في فترة مبكرة على يد الإمام الشافعي، ويمتاز الفقه كذلك بقدرته على التجديد والنماء، فهو علم خصب، مرن، استوعب شتى البيئات والأوطان -رغم تباينها- ومن البدو إلى الحضر، فلم يضق بها ذرعاً، بل سبكها ضمن منظمته، وقضى بالعدل، وقال كلمة الفصل. أما عن كثرة الأقوال والاختلافات فهي ثروة فقهية ونعمة لا نقمة وهي دليل على مرونة الشريعة، لأن فقه مذهب واحد يضيق عن الوفاء بحاجات الناس فتجد في بعض المذاهب من السعة واليسر وسداد الرأي ما لا يوجد في بقية المذاهب، ومن الأمثلة على هذا: المذهب الحنبلي في العقود فهو من أيسر المذاهب في ذلك. والتجديد في الفقه لا ينافي الأصالة على الإطلاق، بل يتناغم معها، إذا حدد المفهوم الصحيح للأصالة، فليست الأصالة هي الانكفاء على كل قديم ورفض كل جديد، فذلك قتل للإبداع وإغلاق لباب الاجتهاد، بل الأصالة هي تلك الممارسة الواعية التي تعني الاستمساك بالثوابت وتعنى بالتجديد في المتغيرات بحسب الحاجة، على أن يكون ذلك ضمن المفاهيم والمضامين الشرعية، وأن يكون دافع التجديد هو الرغبة في التحسين لا مجرد التقليد، كما أن التجديد ليس هو السخرية من كل قديم وفتح الأبواب أمام كل جديد، بزعم أن الجديد لا يمثل إلا التطور والرقي والقديم لا يمثل إلا التخلف والجمود. وينبغي على الفقهاء المجددين مراعاة يسر الشريعة وأنها صفة أصيلة في الشريعة قال تعالى :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وفي الحديث المتفق عليه فيما رواه أنس "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا". وقالت عائشة -رضي الله عنها: (ما خير النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً).