أسدل الستار على فصل هام من حياتنا السياسية بحسم سباق الإنتخابات الرئاسية لصالح الرئيس الحالي محمد حسني مبارك، ولأن لحظة إسدال الستار عن فصل الإنتخابات الرئاسية تعد عن حق بمثابة "المايلستون" على خريطة مسار الأحداث في بلادنا فهي جديرة أن تكون لحظة إلتقاط أنفاس ومراجعة وتقييم في الفاصل الزمني – إن كان ثمة فاصل زمني – البرقي الذي تتيحه الأحداث قبل إستئناف حركتها ودورتها. وقد يكون أولى الأطراف بلحظة التقييم والمراجعة هذه هو الطرف الخاسر – المعارضة في هذه الحالة – والتي لم يتسنى لها إدراك غايتها من تلك المعركة، وهي إسقاط الرئيس وإستبداله رئيس آخر من بين المرشحين التسعة الآخرين. لقد دخلت المعارضة في جدل كبير لمحاولة الإجابة على السؤال هل تشارك في التصويت أم تقاطعه، وإنقسمت المعارضة على نفسها بين هذا الرأي وذاك، والذي لاشك كان لكل فريق أسبابه ومنطقه ووجاهته، لكننا نحسب أن لحظة التقييم التي ندعو لها تستدعي ضمن ما تستدعي مراجعة الخيارات التي كانت مطروحة والإختيارات التي تم إقرارها وذلك في ضوء ما إنتهت إليه التجربة والأحداث حتى نقف على ما عجزنا عن إستقرائه قبل إنكشاف الغيب وإنجلاء المستور. لا أذيع سرا إذا قلت أنني كنت من الذين ذهبوا إلى ضرورة مشاركة المعارضة بكل الأصوات المتاحة لها في معركة الإنتخابات من أجل إقتناص أي فرصة قد تلوح بإحراج النظام إذا عمد إلى التزوير أو إسقاطه إذا أجرى إنتخابات على قدر من النزاهة، حتى وإن كانت وفق قواعد متحيزة وضعها بنفسه لضمان نتائجها. وكنت أقرأ الأراء المخالفة التي دعت إلى مقاطعة الإنتخابات وتفهمت منطقها وبواعثها وإن كان الميل إلى التفكير الواقعي وربما البراجماتي قد وقف حائلا دون الإقتناع بها. واليوم، وبعد إعلان نتائج الإنتخابات الرئاسية أصبح في الإمكان الوقوف على عدد من الحقائق من الأهمية بمكان إقرارها كمعطيات قبل أي عملية تحليل أو إستنتاج تالية. الأرقام المعلنة تقول إن نسبة التصويت بلغة 23% ( نحو سبعة ملايين صوت من أصل 32 مليون صوت ) من جملة من يحق لهم التصويت في الإنتخابات، حصل مرشح الحزب الحاكم على نحو 85% منها تلاه في الترتيب مرشح حزب الغد بنسبة بلغت 12% ثم مرشح حزب الوفد بنسبة بلغت 6%. الحقيقة الأولى التي نستقيها من هذه الأرقام هي أن نسبة المشاركة في التصويت كانت متدنية حيث شارك فقط نحو 7 ملايين ناخب من بين 32 مليون يحق لهم التصويت، وهذا يعني أن التيار المنادي بمقاطعة التصويت قد تحقق له مأربه بأن يقاطع الناخبون هذه الإنتخابات، نقول هذا مع الإشارة إلى أن دوافع الإمتناع عن التصويت لم تكن بالضرورة هي الأسباب التي ساقها تيار المقاطعة، وأن تدني نسبة المشاركة في التصويت وإن كان يخدم لأغراض تقييم موقف تيار المقاطعة لأنه يتلاقى معها في النتيجة وإن كان لا يتوافق معها بالضرورة في البواعث والأسباب، فالمعارضة أرادت مقاطعة قائمة على رفض سيناريو الأحداث بدءا من تعديل المادة 76 من الدستور وحتى إخراج مشهد الإنتخابات الرئاسية وقائمة على رغبة في لإحباط التجربة وفضحها بفض الناس من حولها، بينما نرى أن تدني نسب المشاركة لم يخرج عن السائد في كل إنتخابات سابقة من لامبالاة وسلبية تلتمس الذرائع أكثر مما تمتلك من الأسباب. الإشارة الأخيرة هذه لها أهمية بالغة في إستخلاص النتائج، لأننا نعتقد أن حسم إنتخابات الرئاسة في مصر تم للطرف الأكثر تنظيما وواقعية، ولأننا لا نرى في ضعف الإقبال على التصويت من قبل قطاع كبير من الناخبين أمرا ذو دلالة تنظيمية أو فكرية أو منهجية ما لدى المعارضة، رغم أن إمتلاك المعارضة لهذه القدرة التنظيمية ما كان لها أن تؤتي نتائج تنعكس في ضعف الإقبال على التصويت بأكثر مما حدث في الواقع. على أي حال لنفترض أن ضعف الإقبال على التصويت وتدني نسبه كان نتاج قدرة المعارضة على حبس قطاعات كبيرة من الناخبين عن التصويت، وهذا يضعنا مباشرة أمام تقييم خيار مقاطعة الإنتخابات الذي تحدثنا عنه لتونا كأحد خيارين إنقسمت عليهما المعارضة، فهل كان خيار مقاطعة التصويت خيارا واقعيا صائبا وهل أتى بنتائج ايجابية؟! إن الأمر الذي أصبح مؤكدا هو أن مقاطعة قطاعات كبيرة من الناخبين للتصويت في إنتخابات الرئاسة أهدت الرئيس الحالي هذا النصر المؤزر والكاسح، لماذا؟ ببساطة لأن السبعة ملايين ناخب الذين أدلوا بأصواتهم كانوا في مجملهم هم الناخبون الذين تمكن النظام من حشدهم من بين أتباعه ومؤيديه للإدلاء بأصواتهم، ولا يجب هنا على أي عاقل أن يستكثر على نظام حاكم في بلد يربو تعداده على الخمسة وستون مليون مواطن بينهم على الأقل ثلاثون مليون لهم حق التصويت في الإنتخابات، لا ينبغي لعاقل أن يستكثر على النظام القدرة على حشد سبعة ملايين ناخب في معركة إنتخابية. عند هذه النقطة تحديدا يكمن خطأ تقدير المعارضة الذي إنتهى بها إلى الرأي القائل بمقاطعة الإنتخابات ومن ثم الفشل – مرة أخرى مع التأكيد على الفصل بين دعوة المعارضة للمقاطعة وبين إعراض الناخبين عن التصويت – لأن المعارضة لم يكن ضمن إمكاناتها الواقعية والفعلية تحقيق نسبة مشاركة أدنى من تلك التي حدثت فعلا، ولابد أن يعد إقبال سبعة ملايين ناخب فقط على المشاركة نجاحا ساحقا لفكرة مقاطعة الإنتخابات، مرة ثالثة مع التحفظ على الأسباب التي دعت الغالبية إلى عدم التصويت. إن على المعارضة المصرية أن تتحلى بقدر من الموضوعية والصدق يؤهلها لأن تعترف بأن الحزب الحاكم نجح في حشد أنصاره وكل من يمكنه حملهم على التصويت لصالحه في مقابل فشل المعارضة في حشد أنصارها للتوجه إلى صناديق الإقتراع بقدر ما لا يعبر تدنى مستوى التوصيت عن نجاح مقابل لها. إن الحاصل أمامنا هو أن هناك حزب حاكم على قدر كبير من التنظيم والواقعية والتمرس في مسائل الإنتخابات، مقارنة بمعارضة لازالت بعيدة لحد ما عن أطوار النضج والواقعية وتفتقد إلى تنظيم وواقعية الحزب الحاكم، وخلاف هؤلاء وأولئك نحن أمام كتلة كبيرة من الناخبين لازالت تتمتع بالسلبية واللامبالاة تحت دعاوي التشكك وعدم الثقة، كتلة كبيرة تلتمس الذرائع أكثر مما تبحث عن أسباب لسلبيتها، وهي كتلة توقف وعيها عند صور نمطية معينة لمسائل السياسة والإنتخاباتومفتقدة لدافع أو تغيير القناعات أو رصد التغيرات في الواقع بسبب سلبيتها بالأساس قبل أسباب جمود الواقع وثبات النمط، والحقيقة البارزة التي تؤطرها هذه الصورة هي أن أيا من الحزب الحاكم أو قوى المعارضة لم تصل بعد إلى مرحلة تجسير روابطها بهذه الكتلة الكبيرة من المواطنين والناخبين وإمتلاك مفاتيح التأثير عليها وتحريكها. * إنني أخشى أن تعجز المعارضة عن إدراك الحقيقة لأي سبب حتى وإن كانت إتهامات تزوير الإنتخابات وإستخدام الحزب الحاكم لنفوذ الدولة لحسم الإنتخابات لصالحه إلى آخر هذه الدعاوي المعروفة، أولا لأن فرص التزوير لم تعد مفتوحة ومتاحة كما كان الحال في الماضي، وثانيا لأن أي تصور لعدم إستغلال الحزب لنفوذ الدولة ولكل وسيلة متاحة أمامه ليبقى في الحكم لا تعد إلا من قبل المثاليات المقطوعة الصلة بالواقع، بل إننا نزعم – دون تجني – أن أي حزب آخر كان ليفعل ذات الفعل بلا أدنى تردد. فرصة المعارضة الحقيقة والواقعية كانت إذن في حشد الكتلة الأكبر من الناخبين الذين لا يذهبون عادة إلى صناديق الإنتخاب – سواء دعتهم المعارضة إلى مقاطعة الإنتخابات أو لم تدعهم – ليتوجهوا إلى صناديق الإنتخاب ويختاروا مرشحا آخر خلاف مرشح الحزب الحاكم. فلو إفترضنا أن كانت لدى المعارضة القدرة على حشد عدد مماثل للذي حشده الحزب الحاكم – والذي يمثل فقط 25% من الكتلة الإنتخابية الكلية - لتمكنت المعارضة من فرض مرشحها على مقعد الرئاسة، ولما حصل مرشح الحزب الوطني على أكثر من 50% من أصوات الناخبين. ولو إفترضنا قدرة المعارضة على حشد ضعف العدد الذي حشده الحزب الحاكم ( 12 إلى 14 مليون ناخب ) من تلك الكتلة السلبية الصامتة لما حصل مرشح الحزب الحاكم على أكثر من ثلث الأصوات في الإنتخابات. إن التطور الديموقراطي في مصر مرهون بتطور ونضج القوى السياسية والوعي العام بها، وهذه العملية تستلزم فيما تستلزم عمليات مراجعة وتقييم دائمة ومستمرة تتسم بالموضوعية والواقعية والثقة اللازمة للإعتراف بالأخطاء وتداركها في أقصر مدى ممكن. وتجربة الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر تضع أيدنا على مواضع خلل واضح لدينا، أولها الإنحياز إلى خيارات غير واقعية – خيار مقاطعة الإنتخابات – وثانيها قصور إمكانات المعارضة السياسية عن الخيار البديل، لأنها لازالت فاقدة للقدرة على تحريك على الأقل قطاع موازي للذي يستطيع النظام الحاكم تحريكه وحشده في لحظات الصراع.