الذين تابعوا تحركات بعض المثقفين والصحافيين في أعقاب تقديم وزير الثقافة فاروق حسني استقالته يمكنهم أن يدركوا بشكل واضح مدى الفساد الذي عشش في قطاعات الثقافة في مصر ، ولماذا قال وزير الثقافة وهو واثق تماما من كلامه أنه أدخل المثقفين الحظيرة ، لم يتخيل أحد في بر مصر كلها أن يتظاهر مواطنون أو مثقفون من أجل وزير يستقيل ، والله لو أن مجلس الوزراء بكامله وعن بكرة أبيه استقال لكسر الناس وراءه ألف جرة ، وتصبح نكتة أو كاريكاتير أن يتظاهر مصري واحد بكاءا على رحيل الوزارة ، فأن يستقيل وزير فيتظاهر مثقفون مطالبين ببقائه ؟، ليه ، وبأمارة إيه ، فاروق حسني نموذج لعملية الفساد المنهجي التي ارتكبتها قطاعات من السلطة في مصر خلال الربع قرن الأخير ، والطريقة التي تمت في وزارة الثقافة تمت بنفس الآلية في قطاعات عديدة ، الإفساد من الداخل ، والاحتواء بدون صدام ، والجزرة بديلا للعصى ، واطعم الفم تستحي العين ، ماذا تتصور من مثقف يتقاضى ثمانية عشر ألف جنيه شهريا " هبة " من وزير الثقافة تحت مظلة مستشار لمعالي الوزير ، أو رئيس تحرير إحدى مطبوعاته التي لا يقرأها إلا "بعض" كتابها ، هذا المثقف عندما يتظاهر ببدنه أو بقلمه من أجل الوزير فهو لا يتظاهر من أجل شخص الوزير وإنما من أجل بقاء الثمانية عشر ألف جنيه التي ستطير فور طيران الوزير ، لقد كتب عدد من الصحفيين في صحف حكومية ومعارضة مع الأسف مقالات تلميع ودفاع عن الوزير لا يكفي ماء النيل كله من أجل أن يتطهر وجههم من نجاسة النفاق الذي قالوه ، بعضهم تحدث بتبتل وخشوع عن أهمية رفض استقالة الوزير من أجل استمرار مسيرة الإنجازات التي عرفتها مصر على يديه ، ولا شك أن أهم إنجاز حققه الوزير هو أنه ضخ قرابة مليون جنيه في جيب هذا الفاسد المفسد ، وهناك أموال طائلة كانت تدفع تحت ستار حقوق طبع على كتب مطبوعة من قبل ولم يشترها أحد ، هل هناك في مصر كاتب واحد يتقاضى عن كتيب ألفه أكثر من خمسين ألف جنيه ، وآخر لم يجد أصلا ما ينشره فينصحه " العارفون " : يا راجل شوفلك شوية مقالات وصفحة مقدمة وخلص نفسك ، حتى أصبحت هذه السلاسل إحدى بوابات الفساد الكبرى في الحياة الثقافية والصحافية ، إن أحدا من هؤلاء الذي ساروا في تظاهرة من أجل بقاء وزير الثقافة ، لم ترهم على الإطلاق في أي تظاهرة من أجل مصر ، ولم ترهم في أي تظاهرة من أجل الحرية ، أو أي شيئ آخر ، ولعلها المرة الوحيدة في حياة كل منهم أن يمشي في شيئ اسمه " مظاهرة " ، لقد كانت هذه المواقف الصارخة كافية وحدها لكي ترى القيادة السياسية بأم عينها مبلغ الفساد الذي عشش في البلد ، ولقد كانت فرصة حقيقية لكي يتخذ الرئيس مبارك قرارا " جاهزا " بقبول الاستقالة ، ولكنه بشجاعة وصرامة لا يحسد عليها رفض الاستقالة ، وكأن ذلك انتصار للشعب والطهارة والإصلاح الذي وعد به ناخبيه ، وللأمانة فقد كانت الصحافة الأمريكية محقة تماما في كلامها الذي نقلته المصريون أول أمس من أن الموقف من استقالة فاروق حسني كشف عن أن إمكانيات الإصلاح في ظل العهد الحالي هو أمر غير مطروح بالمرة ولا أمل فيه . [email protected]