حان الوقت لإعادة النظر في مشروعية إقدام الحاكم علي تأسيس »حزب سياسي« من موقع السلطة لكي يحتكر الحكم ويقف عقبة أمام تداول السلطة.. ويركز كل جهوده لتقديم المبررات لقرارات الحاكم وحشد المواطنين حتي لو كان رغم إرادتهم للتصويت للحاكم. هذا التنظيم الواحد نقيض للتعددية ويفسد الحياة السياسية.. والمجتمع، ويحرم الوطن من الكفاءات التي تتمتع باستقلالية في الفكر.. ويمهد الطريق للتوريث. بعد أن ظهر بوضوح دور لجنة السياسات في الحزب الحاكم في صنع القرار السياسي والاقتصادي.. يصبح كل ما نسمعه من تكذيب أو نفي لمشروع »توريث« السلطة.. لا محل له من الإعراب! فالملاحظ أن رئاسة هذه اللجنة تحرص منذ البداية علي أن تشكل لنفسها قاعدة مالية واقتصادية قوية، وعلي السيطرة علي الجهاز المصرفي والإعلامي، وتحاول الاستيلاء علي الأجهزة الثقافية. وهكذا تنتقل لجنة السياسات من مرحلة الهيمنة علي الحزب الحاكم إلي مرحلة الهيمنة علي الدولة. ولم يكن من الصدفة ان تجمع اللجنة بين عناصر أكاديمية وبين رجال الأعمال لكي توسع دائرة نفوذها في سرعة قياسية مستغلة كل امكانيات أجهزة الدولة للوصول الي قطاعات الشباب والتلويح بكل الإغراءات الممكنة في حالة الالتحاق بالركب والترويج للسياسات الرسمية. وتكمن خطورة ما يجري علي الساحة.. في أن الحزب الحاكم يقوم بتسخير كل امكانيات الدولة للترغيب في الانضمام اليه، بحيث يصبح كل من يبحث لنفسه عن مزايا.. يعرف ان الطريق إلي أوضاع متميزة هو طرق أبواب حاشية الحكام. وتزاحم كل طلاب المنافع والمصالح الخاصة لطلب العضوية في الحزب الحاكم. واحتشد الانتهازيون والمنافقون والمتسلقون لكي يحصلوا علي نصيبهم من الغنيمة. وأصبحنا نشهد سباقاً يركض فيه أصحاب المصالح لانتزاع مكان يشعرون فيه بدفء السلطة.. مكان يضمن تأمين هذه المصالح وتنميتها وازدهارها، ويكفل الحماية حتي في حالة مخالفة القوانين والكسب غير المشروع. والغريب بعد ذلك أن نسمع من أقطاب ومفكري الحزب الحاكم تعريضاً بأحزاب المعارضة. وكان المفترض ان يصمتوا علي الأقل، لأن مجرد الانتماء إلي حزب السلطة يكشف عن موقف بعيد عن الاستقلالية وقريب من التبعية. كيف تولد الأحزاب؟ لم يكن مصطفي كامل في السلطة عندما قام بتأسيس الحزب الوطني عام 1907. ولم يكن أحمد لطفي السيد حاكماً عندما قام بتشكيل حزب الأمة. كذلك لم يكن الشيخ علي يوسف، صاحب جريدة »المؤيد« يشغل موقعاً حكومياً عندما أنشأ حزب »الإصلاح الدستوري«. ولم يكن سعد زغلول في الحكم عندما ولد حزب الوفد، بل كان محامياً ناجحاً وقاضياً ممتازاً ونائباً عن الأمة يمثل في الجمعية التشريعية دائرتين من دوائر القاهرة الثلاث، كما كان الوكيل الأول المنتخب لتلك الجمعية التشريعية. وأصبح الوفد وكيلاً عن الأمة المصرية. وتأسس حزب الأحرار الدستوريين من تيار داخل الوفد يعارض تشدد سعد زغلول، ويلتف حول عدلي يكن باشا، وكان زعماء هذا التيار يطالبون بقبول ما يعرضه الإنجليز واستكمال »الباقي« فيما بعد! وتشكل الحزب الاشتراكي المصري »1921« من مجموعات من العمال والمثقفين. وكما هو معروف، فإن حزب السعديين تشكل من عناصر خارجة علي الوفد، بزعامة أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي وإبراهيم عبدالهادي وأيضاً.. حزب الكتلة الوفدية تأسس علي يد مكرم عبيد بعد فصله من الوفد. أحزاب السلطة وكل الأحزاب السياسية التي تشكلت في مصر علي يد السلطة ولدت ميتة واندثرت بسرعة. وفي الحياة السياسية المصرية،حدث أن توهم الإنجليز والقصر الملكي أن الوفد قد انتهي بعد حادث مقتل السردار واستقالة سعد زغلول عام ،1924 وجاءوا بإسماعيل صدقي باشا، وجعلوا منه وزيراً للداخلية، وأشاروا عليه بأن يشكل حزباً يعارض الوفد ويؤيد القصر. وتحمس الملك فؤاد للفكرة، فقام بتعيين علي ماهر مديراً لدائرة الأمير أحمد سيف الدين. واستخدم »علي ماهر« أموال دائرة سيف الدين في الإنفاق علي تكوين »حزب الاتحاد« ليضم بعض الأعيان. وكان أول امتحان لهذا الحزب هو انتخابات سنة ،1925 التي لم ينجح فيها أحد من أعضاء الحزب، بينما فاز سعد زغلول بالأغلبية، ولم يحل عام 1926 إلا وكان هذا الحزب قد عصفت به الرياح. أكوام من القش وقام إسماعيل صدقي بإلغاء دستور 1923 ليحل محله دستور سنة 1930 الذي ينتقص من حقوق الشعب، وقرر إنشاء »حزب الشعب« وإصدار جريدة تحمل نفس الاسم، وكما يحدث عندما يؤسس الحاكم حزباً.. فقد تحولت الحياة السياسية الي خدع وأكاذيب، وأصبحت الحياة العامة فساداً وسرقة ونهباً للأموال، وانقلبت الحياة البرلمانية الي مهزلة. ولم يعد هناك صوت يعلو علي صوت الحاكم، فهو الذي يعرف كل شيء، ويمنح الأرزاق، ويحيي ويميت. ولكن مصر لم تكن أمة من النعاج.. فقد قاومت حكم حزب السلطة باستماتة علي مدي ثلاث سنوات حتي انتصرت علي الطغيان واضطر اسماعيل صدقي للاستقالة.. فانهار الحزب، كما لو كان كومة من القش(!) وكأنه لم يكن هناك حزب، ولا صحيفة، ولا أعضاء بل إن هؤلاء الأعضاء انهالوا علي صدقي باشا سباً وقذفاً عقب استقالته بعد ان كان »قائد معركة القضاء علي الوفد«!!. وانتهي حزب الشعب حيث بدأ. وهكذا يكون مصير الأحزاب التي تولد بإرادة الحاكم الفرد المطلق،.. تقوم بقيامه وتتلاشي بزوال سلطانه. أحزاب مصنوعة يقول وليام جودمان في كتابه »نظام الحزبين«: »ان كل بلد ليس ديمقراطياً، ما لم يكن قائماً فيه حزبان علي الأقل.. قويان، يتنازعان بين حين وآخر ثقة الناخبين.. فمرة هذا الحزب في الحكم، ومرة يكون الحزب الآخر في الحكم.. أما الأحزاب المصنوعة في دول الانقلابات العسكرية، فهي حزب واحد يصنعه الحاكم، وهو حزب يقوم بقيام الحاكم، وينتهي بنهايته«. ولم يندثر الحزب الحاكم في بلادنا مع رحيل الحاكم، لأن النظام السياسي لم يلحق به أي تغيير، وهو الذي يرعي ويضمن ويحمي وجود هذا التنظيم »السياسي« الواحد الذي لم تعد له وظيفة سوي أن يكون قاعدة للحاكم وأداة للحشد والتعبئة للموالين للنظام القائم وتجعله محصناً ضد التغيير، فهذا التنظيم الحاكم هو الغطاء لاختيار أعضاء البرلمان، الذين يختارون بدورهم شخص الحاكم. وهذا الحاكم يعتبر نفسه قوياً بقدر »تحرره« من قيود البرلمانات. وحالة الاستبداد تمتد جذورها وفروعها الي كل أشكال الحياة والسلوك ومفاهيم التفكير عند المواطنين. وعندما يتولي السلطة حاكم جديد يرث »الحزب« الحاكم، لأنه يعتبره ضرورة من ضرورات بقائه ومن مقومات نظام حكم يرتكز علي إرادة الحاكم الفرد. دولة »الهوي« ومن هنا، فإن إطلاق صفة الحزب السياسي علي ذلك الكيان الذي يشكله الحاكم، وهو في السلطة، ينطوي علي تجاوز، لأن التعريف العلمي لكلمة حزب انه طليعة لفئات معينة من الشعب تتجمع للدفاع عن مصالحها، وليس طليعة أو كتيبة من الأفراد يمثلون الحكم لدي الشعب، ويلعبون دور الجوقة التي تردد أصداء صوت الحاكم! وفي دولة تخضع لهذا »النظام« يظل القانون غائباً. وكل شئ يتوقف علي إرادة الحاكم، فهو وحده القادر علي التحكم في مصير أمة بكاملها، وفي هذه الحالة تصبح طرق الحكم اعتباطية، ويتصرف الحكام في الشئون العامة »بمقتضي الهوي« علي حد تعبير المفكر عبدالرحمن الكواكبي،.. فالحاكم هو الدستور، ولا يخضع لرقابة شعبية، وتنتج دولة »الهوي« فئة من الموظفين البيروقراطيين. أما تحركات الجماهير، فهي ليست أكثر من ردود أفعال علي الظلم القائم، وغالباً ما تكون مسدودة السبل بسبب القيود المفروضة. حالة الاستبداد ومنذ أحقاب طويلة، اعتبر مفكرو النهضة في عالمنا العربي أن السلطة القائمة هي سبب انحطاط الأمة، لأن حالة الاستبداد تمد جذورها وفروعها إلي كل أشكال الحياة، كما ذكرنا من قبل، حيث ان الحكم المطلق يجلب الظلم علي اختلاف أنواعه. وفي نفس الوقت، فإن البلاد »التي يكون فيها الإنسان تحت طاعة حكام ظلمة ليس للرعايا فيها سوي مقاساة الخطوب والمنايا« لا تفلح إلا إذا استطاعت تقييد سلطة الحاكم، كما كان يقول رفاعة الطهطاوي. نفاق سياسي لعبت فكرة فرض التنظيم السياسي الواحد في بلادنا دوراً كبيراً في تكريس النفاق السياسي، وفي ظاهرة التدافع نحو »حزب« الحكام ثم التقلب معه بمختلف المراحل التي يتلون فيها وفقاً للظروف. وقد تحول الكثيرون من أعضاء هذا التنظيم الأوحد الي كتبة تقارير ضد المخالفين في الرأي، وضد بعضهم البعض.. الأمر الذي أدي الي زيادة نفور غالبية المواطنين من العمل السياسي وابتعادهم عنه. حكاية »الهرولة« وكان المفترض ان تختفي من الحياة السياسية المصرية، نهائياً وإلي الأبد، ظاهرة »حزب السلطة« بعد الفضيحة السياسية المدوية التي حدثت في عهد أنور السادات. فقد قرر الرجل ان يتخلي عن »حزب مصر العربي الاشتراكي« ويؤسس حزباً جديداً اسمه »الحزب الوطني«. ووقعت أغرب الأشياء التي أثارت ذهول المصريين. ففي لمح البصر.. حدثت »الهرولة«.. عندما انطلق كل أعضاء حزب مصر العربي الاشتراكي باستثناء حفنة ضئيلة للانضمام إلي حزب الرئيس مما أدي الي انهيار »الحزب الحاكم« السابق الذي حمل اسم حزب مصر العربي الاشتراكي وعندما كتب »مصطفي أمين« لكي يعرب عن دهشته من هذه الهرولة قبل أن يعزف المهرولون برنامج الحزب الجديد »الذي لم يكن له برنامج حتي تلك اللحظة« أعرب السادات عن ضيقه من هذه الملاحظة الانتقادية، وقال انه هو نفسه بشخصه »البرنامج«! وكان هذا »الحادث« يكفي لانهاء فكرة وأسلوب ونظام رئاسة رئيس الجمهورية للتنظيم التعبوي، ولكن هذا التنظيم استمر باقياً. والأخطر من ذلك انه تحول، علي يد مفكريه الجدد، الي جهاز قمع وأداة للتحكم في كل مناحي الحياة، ووعاء لانتقاء كل من يسايرون السياسات الرسمية وعلي استعداد للدفاع عنها، سواء عن اقتناع أو من منطلق الزلفي والمداهنة وحماية المصالح الخاصة.. دعوة هزلية ولم يعد هذا التنظيم الحاكم وسيلة لإفساد الحياة السياسية عن طريق »اكتشاف« العناصر التي تشتهي التشبث بأذيال كل صاحب سلطة، وإنما أصبح وسيلة لإفساد المجتمع من خلال تزيين وتجميل التضحية بالاستقلالية في الرأي ووأد الفكر الحر النقدي وإعلاء شأن معايير أخري غير معيار الكفاءة والإخلاص في إبداء الرأي مهما كانت العواقب. وبالتالي، أصبح استمرار رئيس الجمهورية في موقع رئيس التنظيم الحاكم يهدد بإضعاف المجتمع وحرمانه من الخصوبة الفكرية والسياسية وتجريده من مقومات التقدم السياسي. ولا يمكن الفصل بين الإصرار علي استمرار رئيس الجمهورية.. رئيساً للتنظيم الحاكم، وبين مشروعات التوريث، وخاصة بعد اطلاق يد »الوريث« في هذا التنظيم الحاكم لكي يكون طاقمه القيادي هو الذي يمهد الطريق للحاكم القادم. والدعوة لتجميد عضوية رئيس الجمهورية في الحزب الحاكم أثناء توليه السلطة هي دعوة هزلية لأن الأمور لا تؤخذ بالشكليات. بل إن الأمور بدأت تتخذ وجهة خطيرة تتطلب إعادة النظر في مشروعية تأسيس »أحزاب« من موقع السلطة.. وخاصة أنه تأكد لدي كل المصريين أن هذا النوع من التنظيمات أو »الأحزاب« ليس أحزاباً بالمعني الحقيقي. وأنها جهاز إداري ملحق بالسلطة وليست له سوي مهمة وحيدة هي تبرير وتجميل قرارات الحاكم وحشد المواطنين رغم إرادتهم للتصويت للحاكم، كما تأكد لدي كل المصريين أن هذا النوع من التنظيمات والأحزاب لا يتخلي عن السلطة، ولا يعرف معني لتداول السلطة، وإنما يحتكر الحكم.. كما يحتكر كل شيء علي أرض مصر!. --------------------------------------------------------- صحيفة الوفد