حرب أكتوبر المجيدة تاريخ معروف للأمة العربية وللعالم أجمع، مرت ذكراها خلال الأسبوع الفائت على نفسي كما لم تمر من قبل، ربما لأنها المرة الأولى التي نحتفل فيها بهذه الذكرى العزيزة تحت ظلال عهد جديد صنعه الشعب المصري لنفسه بدماء شهدائه الأبرار ويقود احتفاله رئيس مدني منتخب عبر انتخابات حرة شفافة، صحيح أن الاحتفال هذا العام كان له طعم خاص، ولكنى لا أستطيع أن أخفى أن ذكرى أكتوبر تصاحبني طوال العام، كثيرًا ما تسبقني دموعي إذا ما عاودتني ذكريات البطولة والتضحية وأنا أقود السيارة في سفر طويل أو أجلس إلى نفسي خاليًا أو أشاهد بطلاً من أبطال أكتوبر يتحدث في إحدى الفضائيات. ربما يعتقد البعض أننى أبالغ في الاحتفاء بهذه الذكرى لأنني أحد المشاركين في حرب أكتوبر، ولكنني للأسف الشديد لم أحظ بهذا الشرف، وإنما كنت شاهدًا على هذا العصر وما وقع به من بطولات من الشعب المصرى، وهى بطولات لا تقل أهمية في التاريخ عن بطولات الجيش نفسه، كانت ميزانية الدولة بأكملها موجهة إلى التسليح، كانت مرافق الدولة جميعها في أسوأ حال، كان مرتب المؤهلات العليا عند بداية التعيين لايتجاوز تسعة وعشرين جنيهًا، كانت السلع الأساسية غير متوافرة وتوزع بالبطاقات التموينية، ورغم ذلك كله كانت المظاهرات تخرج من الجامعة لتطالب بعام الحسم وليس برغيف الخبز، هذا هو الشعب العظيم الذي دفع بجيشه إلى طريق النصر . عندما بدأت الحرب كان عمري وقتها ثمانية عشر عامًا، وهو سن يحاول فيه المرء الخروج من عالم الطفولة والدخول إلى عالم الشباب، كان أبى - رحمه الله - يجاهد ليمنعني من النزول لصلاة الجماعة خوفًا على بسبب انتشار الأفكار التكفيرية في ذلك الوقت، وكنت أعلم أن أمى - رحمها الله - هي التي تدفع أبى إلى هذا الموقف من فرط إشفاقها على ولدها، فلما قامت الحرب وفتحت القوات المسلحة باب التطوع فيما سُمىَ بالكتائب الشعبية بادرت إلى التطوع فيها، عدت إلى دارى وأنا لا أعرف كيف سأبلغ أهلى بهذا القرار، جلست إلى أبى بعد صلاة العشاء، وأمى على مقربة تتسمع وتتظاهر بالانشغال في أمر آخر، سمعني أبي حتى النهاية وهو مطرق برأسه دون أن يعلق بكلمة واحدة، أنا أنظر إليه وهو ينظر إلى الأرض، مرت لحظة صمت، بعدها لمس بيده الحانية ركبتي ثم انصرف دون أن ينطق بكلمة موافقة أو بكلمة ممانعة، وغابت أمي عن بصري بقية الليل فلما تفقدتها وجدتها قد ذهبت للنوم مبكرًا، فوقع في ظني أنها غاضبة من موافقة أبي، وللعجب فقد فوجئت في اليوم التالي بأن أمي هي التي توقظني في السادسة صباحًا حتى لا أتأخر عن موعد التدريب العسكري، هذه الواقعة أسوقها للتدليل على أن الأسرة المصرية التي تخاف على ولدها حتى من صلاة الجماعة لم تكن تمانع أبدًا في إرساله إلى حرب ضروس لا يعلم إلا الله مداها، من أجل هذا استحق شعبنا النصر، ومن أجل هذا لم أفقد إيمانى بقدرة هذا الشعب العظيم على تحقيق المستحيل متى أراد، وبرغم تصاعد الدعاوى بأن هذا الشعب خامل ولن يتحرك، فقد فاجأ الجميع في 25 يناير بثورة تاريخية تعجب لها العالم أجمع، حتى قيل بحق إنها إنجاز لا يقل عن إنجاز أكتوبر، أو إنها تمثل عبورًا ثانيًا. في أكتوبر يكثر الحديث عن بطولات الجيش العظيم، وهى بطولات مشرفة بحق، ولكنى أردت فقط أن أنبه إلى بطولة هذا الشعب العظيم التي لا يكاد يتحدث عنها أحد، كن فخورًا بانتمائك إلى هذا الشعب، ثم اجتهد أن تكون على قدر مسئولية هذا الانتماء. [email protected]