الفرحة السودانية بتوقيع الوثيقة الدستورية التي تمهد لحكم مدني ديمقراطي عبر فترة انتقالية يتشارك فيها المجلس العسكري مع قوى الحرية والتغيير، امتزجت بغصة وحزن من الدول العربية الشقيقة، وصلت حد التطرف إلى مطالبات بالانسحاب من الجامعة العربية، وإعطاء السودان ظهره للعرب، والاتجاه نحو أفريقيا. في تقديري أنها مطالبات لا تعبر عن موقف جاد ولا عن إجماع شعبي. نوع من العشم والعتاب سينتهي سريعا دون أن تترتب عليه أية مواقف من نوعية "البريكست" أو الخروج الذي يطالب به البعض على صفحات التواصل الاجتماعي السودانية. لنعترف أولا أن الحضور العربي لحفل التوقيع كان هزيلا، وقبله غياب الاهتمام بما حدث في السودان، كأنهم غير معنيين بها ولا بأهميتها كدولة جوار تتمتع بموقع استراتيجي شرياني. في المقابل كانت أفريقيا وخصوصا أثيوبيا في قلب الحدث السوداني منذ لحظته الأولى. لعب آبي أحمد علي رئيس الوزراء الأثيوبي، وهو مسيحي الديانة من أب مسلم وأم مسيحية، دورا رئيسا في عملية الوساطة التي أفضت إلى تلك اللحظة التاريخية. السودانيون لا ينسون من أسدى لهم معروفا ولا يغفرون سريعا لمن تخاذل عنهم. وذلك هو السر في الاحتفاء البالغ بآبي أحمد وشبه التجاهل لممثلي الحضور العربي. غياب العرب من البداية سببه موقفهم المتوجس من الثورات، فقد بات لدى نخبهم الحاكمة شعورا قويا بأنها لم ولن تأتي بخير، وهو موقف لا ينفردون به، فواشنطن نفسها لم تتخذ موقفا سريعا حاسما من الربيع العربي آواخر 2010 وأوائل 2011 في كل من تونس ومصر. لقد ظلت اجتماعات مجلس الأمن القومي مستمرة يوميا تتابع ما يجري في القاهرة دون التوصل إلى قرار، وكان هناك انقسام واضح بين فريقين، أحدهما ينظر إلى المصالح الأستراتيجية في الأمن والاستقرار في المنطقة ويرى أنها يجب أن تتغلب على القيم الأمريكية التي تعلي الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. لقد كان صراعا بين رؤيتين استمر وقتا طويلا كما ذكرت وزيرة الخارجية في ذلك الوقت هيلاري كيلنتون في كتابها "خيارات صعبة". لذلك كان من الطبيعي أن نرى التردد وتقديم خطوة وتأخير خطوات في القرار الرسمي العربي بخصوص ما يجري في السودان، إضافة إلى التجربة المصرية عندما سارعت حكومة الرئيس الأسبق مبارك بتأييد ثورة الانقاذ التي انقلبت على حكومة مدنية ديمقراطية، ثم تبين لها لاحقا أنها وقعت ضحية خداع سياسي من حسن الترابي ورفاقه! أديس أبابا ليست لديها الاشكالية نفسها ولا التجارب السيئة التي تؤثر على سياستها الخارجية نحو جيرانها. آبي أحمد رئيس حكومة ديمقراطية جاءت بالانتخاب، ومن هنا لا نتوقع أن تكون لديه التخوفات العربية نفسها، كما أن القوى السودانية التواقة لحكم ديمقراطي مدني أكثر ثقة به من غيره، بسبب استيعابه للعملية الديمقراطية في بلاده رغم أنه يملك خلفية عسكرية وصلت به إلى رتبة العقيد في استخبارات الجيش الأثيوبي. كما أن شريط الثورات المضادة وتأييد بعض العواصم لها مر بذاكرة السودانيين مما رفع سقف توجسهم من الموقف العربي. في النهاية وصل العرب إلى السودان وإن لم يكن بالتمثيل المنتظر، لكنهم جاءوا على أي حال، وهذا ما يجب أن ينظر له السودانيون بترحاب وليس بالإعراض وإعطاء الظهر، فالخرطوم تنتظرها مشكلات اقتصادية دقيقة وحساسة للغاية، وبدون الدعم العربي خصوصا من الدول الغنية، فإن تلك المشكلات ستكون أكثر خطورة على مستقبل التغيير في السودان من الثورات المضادة أو غيرها. الانسحاب من الجامعة العربية سيجعل تقديم الدعم صعبا إن لم يكن مستحيلا. لن يستطيع الاتحاد الأفريقي ولا أثيوبيا تعويض ذلك، فهما لا يملكان رفاهية مساعدة الآخرين لتجاوز مشكلاتهم الاقتصادية. [email protected]