تابعت بعض ما أثير حول رؤية هلال شوال لهذا العام 1440ه ، وما ذكره بعضهم من أنهم رأوا الهلال مساء يوم الثلاثاء الموافق للرابع من يونيو 2019م ،وكان حجمه كبيراً، بحيث يستبعد –في نظرهم - أن يكون ابن ليلة واحدة ، وأن هذا يؤكد خطأ البلاد التي أكملت عدة رمضان ثلاثين يوماً كمصر ومن تابعها ، وفي المقابل تداول رواد مواقع التواصل وغيرها أخباراً مفادها أن الجهات المسؤولة في المملكة السعودية قد اعترفت بخطأ إعلان العيد يوم الثلاثاء (الرابع من يونيو )،وأنه من أجل ذلك دفعت الحكومة السعودية ملياراً وستة ملايين من الريالات كفارة عن الشعب السعودي بسبب خطأ تحديد عيد الفطر. والحق أنه لم يكن هناك موجب لهذا اللغط من الأصل ،وأن صيام كلا الفريقين وفطره صحيح كما سيأتي ، وأنه بالنسبة لما أثير حول دفع الحكومة السعودية كفارة عن الخطأ فقد تتبعنا مصادر تلك الشائعات فوجدنا أنه لا صحة لتلك الأقاويل ،بل إنه حتى لو ثبت بالفعل اكتشاف خطأ في رؤية الهلال فإن ذلك لا يؤثر في صحة الصيام والفطر ما دام المسلمون قد صاموا تسعة وعشرين يوماً على الأقل ، كما أنه ليس هناك شيء في كتب الفقه اسمه كفارة الخطأ في الصيام أو الفطر ،ولا يوجد أي نص شرعي يدل على ذلك . وعلى كل حال أود أن أذكر باختصار بعض النقاط المهمة المتعلقة بهذا الأمر فأقول وبالله التوفيق : 1-من المعلوم أن هناك خلافاً بين فقهائنا من قديم في مسألة اعتبار اختلاف المطالع ، وأن جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة على أنه متى ما رؤي الهلال في بلدٍ فإن على أهل بقية البلدان التي تشترك معها في جزء من الليل الأخذ بتلك الرؤية ، وخالف في ذلك الشافعية فرأوا الأخذ باختلاف المطالع وأنه لا يُلزم أهل بلد لم يروا الهلال برؤية غيرهم ، ولكل فريق ما يستدل به مما ذكرناه في غير هذا الموضع . وإذا كان الأمر بهذه المثابة من الخلاف فإنه لا يُنكر على من أخذ بأي من القولين ، ومن أجل ذلك رأينا المجامع الفقهية المعاصرة قد وقع بينها شيء من الخلاف في هذه المسألة فمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر يأخذ بقول الجمهور في أنه لا عبرة باختلاف المطالع وإن تباعدت الأقاليم متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل، وأن اختلاف المطالع يكون معتبراً فقط بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة ، كما هو نص قرار المجمع الصادر في مؤتمره الثالث سنة 1386ه- 1966م ، وكذلك قرر مجمع الفقه المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثالثة سنة 1407ه أنه لا عبرة باختلاف المطالع وأنه إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ، وأما مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي فقد ذهب في دورته الرابعة سنة 1401ه إلى اعتبار اختلاف المطالع ، وأنه لا حاجة إلى الدعوة لتوحيد الأهلة ، وأنه يرى أن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية . 2-وما دام الأمر كذلك فإنه إذا كانت الجهات المسؤولة في مصر والسعودية أو غيرهما ، قد أخذت بأن لأهل كل بلد رؤيتهم فلا بأس بذلك ،وبناء عليه فإنه لا بأس في اختلاف بعض الأقطار الإسلامية في تحديد يوم العيد تبعاً لاختلافهم في الرؤية ، ولا يقال لهؤلاء ولا لأولئك : إنكم مخطئون ، بل كلاهما صومه صحيح وفطره صحيح ،ما دامت أيام الصيام لم تنقص عن تسعة وعشرين يوماً . 3-وأما ما ذكره البعض من أنهم رأوا الهلال في يوم الثلاثاء كبيراً ،وأن هذا يؤكد خطأ أهل مصر في صيامهم يوم الثلاثاء ،فإنه مما يجب أن يعلم أن المستقر عند أهل العلم أنه لا عبرة بكبر الهلال أو صغره ، وإنما العبرة بالليلة التي رؤي فيها لأول مرة ؛ كما دلت على ذلك النصوص الشرعية ، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي البخترى قال : ( خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة تراءينا الهلال ، فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين ،قال فلقينا ابن عباس فقلنا إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين ،فقال أي ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا ليلة كذا وكذا ، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه ) أي أنه في الليلة التي يُرى فيها الهلال تكون بداية الشهر حتى لو رؤي كبيراً كقدر ابن ليلتين أو ثلاث ، ولذلك بوب الإمام النووي على هذا الحديث بقوله ( باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره ،وأن الله تعالى أمدَّه للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون )، والحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وبوب عليه : ( باب ذكر الدليل على خلاف ما توهمه العامة والجهال ، أن الهلال إذا كان كبيراً مضيئاً أنه لليلة الماضية لا لليلة المستقبلة ) .وقال الملا علي قاري في شرح هذا الحديث من مشكاة المصابيح : ( والمعنى: رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة، ولا عبرة بكبره، بل ورد أنَّ انتفاخ الأهلة من علامات الساعة ). 4-ومما قرأناه أيضاً بخصوص هذا الأمر أن بعضهم قد اقترح من أجل الخروج من إشكالية الاختلاف في رؤية الهلال كل عام أن نأخذ بالحسابات الفلكية حسماً للأمر ومنعاً للاختلاف ، حتى قال بعضهم: إن بدايات الأشهر العربية يحددها علم الفلك ولا دخل للشرع بها . والحق أن تحديد بدايات الأشهر ،رغم أنه قد يُحتاج فيه لبعض خبرة أهل الفلك، إلا أنه أمر شرعي في المقام الأول لتعلقه بالعبادات الإسلامية ،وقد مضت سنة المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن أولي الأمر من الحكام والقضاة هم الذين يناط بهم تحديد دخول الشهر وخروجه لتعلق ذلك بالعبادات كالصوم والحج وغير ذلك . 5-كما أن الزعم بأن الأخذ بالحساب سوف يحسم الخلاف ليس صحيحاً ، لأن الذي لا ينتبه إليه الكثيرون أن الحسابات الفلكية ليست دقيقة بالدرجة التي يتخيلونها ،بل هي عرضة للخطأ أيضاً ، وهناك بحث لأستاذ متخصص في علم الفلك هو الدكتور محمد بخيت المالكي عنوانه : ( ملاحظات على أسباب الاختلاف بين الرؤية الشرعية والحساب الفلكي لهلال الشهر الإسلامي ) ، وفي هذا البحث أثبت الدكتور المالكي بالأدلة العلمية أن تلك الحسابات ليست دقيقة ، وأن الخطا وارد فيها بنسبة كبيرة .ومما يؤكد ذلك أننا نجد أصحاب الحساب الفلكي كثيراً ما يختلفون فيما بينهم في تحديد بداية الشهر أو نهايته . وأقرب مثال على ذلك ما رأيناه من اختلافهم في تحديد عيد الفطر لهذا العام 1440ه ، فإنه طبقاً لما نشرته جريدة الوطن المصرية وغيرها من الصحف والمواقع بتاريخ 2/ 6 / 2019م تحت عنوان : الثلاثاء أول أيام عيد الفطر فلكياً جاء ما يلي: ( قال الدكتور محمد جاد القاضي، رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، أن غرة شهر شوال وأول أيام عيد الفطر سوف يوافق هذا العام يوم الثلاثاء الموافق 4 يونيو القادم فلكياً، مؤكدا أن رمضان هذا العام سوف يكون 29 يوماً فقط ) ، وطبقاً لهذا الخبر فإن الدكور القاضي أوضح أن هلال شوال سيبقي في سماء مكة والقاهرة 6 دقائق بعد غروب شمس يوم الإثنين ،وأنه سيبقى أكثر من ذلك في بقية العواصم العربية والإسلامية . هذا بينما نشرت جريدة القدس العربي بتاريخ 3/ 6/ 2019 ما نصه : ( كشف مركز الفلك الدولي، عن اليوم الأول المتوقع لعيد الفطر استناداً على رؤية هلال شهر شوال في مختلف أنحاء العالم.وأوضح مدير المركز محمد عودة أن جميع المؤسسات الفلكية والمتخصصين أجمعوا على أن رؤية الهلال غير ممكنة يوم الاثنين، بجميع الوسائل، من قارة أستراليا وآسيا وإفريقيا وأوروبا، مما يعني أن الأربعاء سيكون أول أيام عيد الفطر فلكياً ،وأضاف أن القمر سيغيب الاثنين، في معظم الدول العربية، بعد غياب الشمس بدقيقتين، مما سيجعل مهمة رؤيته مستحيلة بعد الغروب، لتتأجل رؤيته إلى الثلاثاء ). فبالله عليكم قولوا لنا بحساب أي من الفريقين تريدوننا أن نأخذ ؟ 6-وعلى ذلك فالصواب أن نتمسك بما كان عليه سلف هذه الأمة من الأخذ بالرؤية عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) ، وغيره من الأدلة . والحل الأمثل - فيما أرى - أن يتفق علماء الأمة الإسلامية على الأخذ بقول الجمهور، في عدم اعتبار اختلاف المطالع ، وأن تُلزم جهات الفتوى والقضاء في البلاد الإسلامية بالتواصل فيما بينها ليلة الرؤية وقبلها من أجل توحيد بداية الشهور العربية ، فإن الاجتماع والوحدة أفضل ولا شك من الفرقة والاختلاف . 7-لكن إن لم يتيسر هذا الحل "الأمثل" ،وأصرت الجهات المسؤولة على الأخذ بقول الشافعية ،فإنه لا شك أن الحل "الأنسب "في هذه الحالة ألا يختلف المسلمون في القطر الواحد ،وأن يصوم المسلمون ويفطروا تبعاً لنتيجة الرؤية التي تحددها الجهات الشرعية في بلادهم، وهذا هو الذي يفتي به العلماء المعاصرون حتى ممن يرجحون عدم اعتبار المطالع كالشيخ ابن باز والشيخ الألباني رحمهما الله وغيرهما من أهل العلم ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : (الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحون ) [ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة ،واللفظ للترمذي ،وحسنه الترمذي ، وصححه الألباني في الصحيحة ] . وفي رواية : ( الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس ) . ومعناه كما نقل الترمذي عن بعض أهل العلم : ( أن الصوم والفطر مع الجماعة وعِظم الناس ) ،ومعنى عظم الناس : كثرة الناس وغالبهم . 8-ثم إننا نقول إنه رغم أن من الأمور المحمودة شرعاً السعيَ في توحيد بداية الصوم والفطر ،وكذا يوم عرفة ويوم عيد الأضحى ونحو ذلك ، إلا أنه مما ينبغي أن يعلم أن حدوث الاختلاف في ذلك لا يضر المسلمين في دينهم ، وهو أمر كان يحدث من قديم ،وكان السلف يتعاملون معه على أنه أمر عادي، لا يوجب فرقة ولا اختلافاً ، ولا يؤثر في صحة العبادة ، ومثال ذلك ما ورد في حديث كريب الذي في صحيح مسلم ، وفيه أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية في الشام ، فلما رجع سأله ابن عباس متى رأيتم الهلال ؟ فقال : رأيناه ليلة الجمعة ، وأن معاوية وأهل الشام صاموا على ذلك ،فقال ابن عباس : ( لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه ، فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ). فإن ابن عباس رضي الله عنهما قد اعتبر الاختلاف في بداية الشهر أو نهايته أمراً عادياً لا يضر ولا يؤثر في صحة العبادة . 9- بل إنه حتى لو أخطأ المسلمون جميعاً في دخول شهر رمضان أو الخروج منه ،أو أخطؤوا في تحديد يوم عرفة أو يوم النحر ،فإن ذلك الخطأ معفو عنه ولا يؤثر في صحة العبادة . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 25/ 202) أن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر من ذي الحجة خطأً – أي ظناً منهم أنه التاسع - فإنه يجزئهم الوقوف باتفاق العلماء ، ويكون ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، وأما لو وقفوا يوم الثامن خطئاً ففي الإجزاء نزاع- أي أن هناك من ذهب إلى عدم الإجزاء لكونهم يمكنهم تصحيح الخطأ بالوقوف مرة أخرى في اليوم الذي يليه – ثم استظهر ابن تيمية رحمه الله صحة الوقوف أيضاً في هذه الحالة ، وقال : ( وهو أحد القولين في مذهب مالك ومذهب أحمد وغيره، قالت عائشة رضي الله عنها: إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس). وقال الخطابي في معالم السنن : (إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد ، فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد ثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعاً وعشرين ،فإن صومهم وفطرهم ماضٍ ،لا شيء عليهم من وزر أو عيب ، وكذلك هذا في الحج إذا أخطئوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ). والمقصود أن الأمر في ذلك واسع ،وأننا حتى لو أخطأنا في دخول الشهر أو الخروج منه فإنه فلا تثريب علينا ، ما دمنا قد صمنا تسعة وعشرين يوماً على الأقل .فالأمر سهل ،وديننا بحمد الله يسر لا عسر فيه.